Back to Lectures

كلمة الرئيس امين الجميل في افتتاح مؤتمر بيت المستقبل

2015-05-30

كلمة الرئيس أمين الجميّل
في إفتتاح مؤتمر "بيت المستقبل" المنعقد
في سرايا بكفيا، بتاريخ 30 أيار 2015

* * *

السيداتُ والسادة،
هو أولُ مؤتمرٍ بحثي في "“بيت المستقبل”" في سراي بكفيا، مقرِه الجديدْ، بعد إعادةِ إطلاقِهِ إثرَ الغيابِ القسري، وعذراً لأيِ ثغرةٍ أو تقصيرٍ في الشكل، انما الأساسُ يكتملُ بحضورِكم ومساهماتِكم الفكريةْ القيّمةْ.
تأتي هذه الانطلاقةُ الجديدةْ بعد سلسلةِ مؤتمراتٍ نظمها “بيتُ المستقبل” مع مؤسساتٍ شريكةٍ في لبنانَ والخارجْ، تلبيةً لطموحاتِه في كسرِ زمنِ الرتابةِ في العالمِ العربي الذي باتَ في نفقِ الصراعاتْ، التي زعزعتْ أنظمةً ، وأزالت حدوداً وأدمت قلوباً.
لكن يجبْ أن يبقى الغدُ ملكَناَ والانسانُ العربي مسؤوليتَنا.
وللباحثِ الا يخافَ الترهيبْ، ولا يُخْضِعْ فكرَهُ للترغيبْ. إن ”بيتَ المستقبل” أخذَ على عاتِقِه هذا الرهانَ بأن يكونَ مِلكَ الفكرَ لا رهينةَ الحساباتِ من أيّ نوعٍ كانت. فدورُه البحثُ في الحاضرْ، واستشرافُ المستقبلْ بغرضِ الخروجِ من المستنقعِ الذي نتخبّط فيه جميعاً، بنظرةِ القديرِ لا الأسيرْ، فالقدرةُ هي في الولوجِ الى الأمامْ، لا البقاءَ حبيسَ الماضي بعذاباتِه وآلامِه. المأساةُ فُرضت على المنطقةْ مع كلِ أسبابِها الموجِبةْ وظروفِها الموجعةْ كمثلِ الحوكمةِ السيئة ْالاُحاديةْ والملطخةْ بالفسادْ ،والتربيةْ المتزمّتةْ المنغلقةْ على نفسِها ، واخيراً ، التنميةْ العشوائيّةْ التي تفتقرُ الى أبسطِ قواعدِ البرمجةِ والشفافيةْ .
في هذه اللحظةِ بالذاتْ أراد “بيتُ المستقبل” أن ينطلقَ من لبنانَ ومن هذا الجبلِ العريقْ، أراد أن يرفعَ التحدي الحضاري والتنموي في سبيلِ إنسانٍ شرق أوسطي وعالمي متحرّرٍ يحقّقُ طموحاتِه الطبيعيةْ، وينعمُ بحقوقِه الاساسيةْ، ويدفعُ المنطقةَ الى بيئةِ استقرارٍ وسلامْ.
نعقدُ مؤتمرَنا هذا في هذه اللحظةِ اللبنانيةِ والعربيةْ الأصعبْ والادقْ، بل الاخطرْ التي تمرُّ بها المنطقة. اعتدنا على القولْ إن لبنانَ هو الخاصرةُ الرخوة، فإذا بكلِ المنطقةْ جسمٌ ضعيفٌ تفتكُ به الأمراضْ، وتَحْكُمُه الأنقاضْ. وأعتقدْ أنه من مصلحةِ الجميعْ، في المنطقةْ وفي العالمْ، أن يبقى لبنانُ آمناً ولو بالحدودِ الهشةِ والنسبيةْ، كي يبقى وطنُ الأرزِ متنفَساً لأزماتِ دولِ المنطقةِ وحروبِها، ومساحةَ حوارٍ بين المتخاصمين ، وموئلاً للجماعاتِ والفئاتِ الدينيّةِ والإتنيّةِ المضطَهدةِ في بعضِ بلدانِ الجوارْ، فئاتٍ أسيرةَ ثقافةِ الموتْ، والهاربةَ من جحيمِ الحديدِ والنارْ. نسعى من خلال "بيتِ المستقبل" الى خلقِ بيئةٍ صديقةٍ للحوارِ والسلامْ، تكونُ منطلقاً للخروجِ من حالةِ الضوضاءِ والعبثِ والعدمْ، الى حالةِ الوجوديةِ التي تفتشُ عن ذاتِها وعن مستقبلِها.

السيداتُ والسادة،
ان لبنانَ والمنطقةْ يحملانِ نوعين من المتفجرات:
أولاً. السلاحُ خارجَ الشرعيةِ والخارجَ عن الشرعيةِ، وهو في كلِ الاحوالْ سلاحٌ فتّاكٌ ضد كلِ الشرعية ، سلاحٌ ذو طابعٍ فئويٍ أو طائفيٍ أو مذهبيٍ، وهنا الإشكاليةُ الاولى التي تزيدُ من ضراوةِ القتالِ والإقتتالِ عندنَا وعندَ غيرِنا.
ثانياً. المواجهةُ الطائفيةْ، المذهبيةْ، الاتنيةْ المدمرةْ في المنطقةْ والتي ترخي بتداعياتِها على الداخلْ.
يدركُ الانسانُ القويمُ الفكرْ أن الحلَ لا يمكنُ أن يكونَ قدَرياً أو أن يأتيَ عفواً، بل يجبْ أن تتحركَ النخبُ اللبنانيةُ والعربيةْ وتشكلَ مظلةً واقيةً ودرعاً مضاداً لهذا التفلتِ العبثي الذي يهددُ الكلَ، بشراً وحجراً، عمراناً وحضارةً، تاريخاً وقيماً. ان على هذه النخبِ التي تملِكُ القدراتِ على اختلافِها تنظيراً وفعلاً، تفكيراً وتأثيراً، أو النخبِ الملتزمةِ في الحراكِ الرسمي أو الشعبي، أن تتحركَ أولاً وتُحَرِّك معها المجتمعَ المدني بكل أطيافِه ومكوناتِه، وتضغطَ لنهوضِ حراكٍ دولي ينبثقُ عنه تصوّرٌ لمشاريعِ حلولٍ تؤدي الى قرارٍ أممي بوقفِ الحروبِ ووقفِ إراقةِ الدماءْ، ويحمي المدنيين ويضع حداً للنزيفِ الاقتصادي الذي غالباً ما يكونُ سبباً جديداً لنوعٍ آخرَ من الحروبِ والثوراتِ والويلاتْ.
إن “بيتَ المستقبل” راغبٌ وقادرٌ على احتضانِ مبادرةٍ لبنانيةْ عربيةْ دوليةْ تقتبسُ تجربةَ "مشروع مارشال الإقتصادي الإنمائي" في أعقابِ الحربِ العالمية الثانية. ان هذا المشروعَ أنقذَ أوروبا واعادَ إعمارَها من الصفر، وساهم بنهوضِها من تحت الركام، ومنطقةُ الشرقِ الاوسط بواقعِها الأليمْ، وكيانِها المهدومْ ، واقتصادِها المأزومْ، لن تقومَ لها قيامةٌ الاّ بمشروعٍ شبيهٍ ومماثلْ. وفي البُعدِ السياسي لهذا المشروع، فإنَ إعادةَ الإعمارْ وضخّ الأملَ في نفوسِ أبناءِ المنطقةْ من شأنِه ان يُساهمَ في الحدِ من الفكرِ التكفيري والمشاريعِ السلطوية، تماماً كما واجهَ مشروعُ مارشالَ الفكرَ العقائدي التوتاليتاري في حقبةِ الحربِ الثانية وما تلاها.
إن الأزْماتِ والحروبَ أثرت بشكلٍ كبير على التنميةْ في المنطقةِ العربية في السنواتِ الأخيرةْ ، وإن إعادةَ إعمارِ سوريا والعراق وغزة ، تحتاجُ الى ما يُقاربْ ال 750 مليار دولار، وفقَ تقريرٍ للجنةِ الاقتصادية والاجتماعية لغربي أسيا " الإسكوا" خلال عامين 2013، 2014. وهذا الرقمُ غيرُ نهائي ، كونْ العملياتُ العسكريةْ لا تزالُ مستمرةْ ، كما ان لبنان يرزحُ تحتَ وطأةِ دينٍ عـام قدرُه مئةٌ وعشرة بليون دولار وليس ستونَ مليار دولار كما يدعي البعض. ولن نتكلّم هنا عن مأساة اليمن وليبيا، وغيرها...
إنّ الدولَ العربيةْ تحتاجُ الى بنكٍ عربي للإعمارْ مهمتُه تنميةُ المناطقِ التي شَهِدَت نزاعاتٍ وصراعاتٍ ، وإعادةُ تأهيلِها ، بعد ان يتوقف القتال، وأن تتوفرَ الخططُ الرشيدةْ ، وإرادةٌ سياسيةٌ لتعبئةِ المواردِ الماليةْ الضروريةْ بهدف تحقيقِ التنميةِ الشاملةْ ،.وذلك بالتعاونِ مع صندوقِ النقدِ الدولي وأجهزةِ الاممِ المتحدةِ المختصةْ ، وبمشاركةِ الطاقـاتِ الوطنيةْ الخيرّة والقادرةْ .
ان هذه المشاريعَ الملحةْ هي من النوعِ الانقاذي ويجبْ أن تشملَ حكماً بخدماتِها العبءَ الكبيرْ والاكلافَ غيرَ المسبوقةْ التي خلفّتها وتخلفُها موجاتُ النزوحِ غيرُِ المسبوقْ من شتى الدولِ التي تعاني الحروبَ الى دولِ الجوارْ وبخاصةٍ لبنان الذي اضطر الى استقبالِ أقلَ بقليلٍ من نصفِ عددِ سكانِه، بما فاق قدراتِه، وهذا أمرٌ بات يشكلُ خطراً داهماً على بناهْ التحتيةْ وعلى سيادتِه وأمنِه واستقرارهْ.

السيدات والسادة،
ان أفضلَ الطرقْ وأفعلَها لمواجهةِ الفقرْ والبطالةْ وقمعِ الحركاتِ الاصوليةْ المستفيدةِ منها، هي بمواجهتِها بالإنماءِ، والتربيةْ . وتأتي التربيةُ متزامنةً ومكمِّلةً للانماء، وهي أحوجُ ما تفتقدُه مجتمعاتُنا العربية. فالتربيةْ بمعناها الشامل وأبعادِها العليا تنشُرُ ثقافةً منفتحةً ، تشجعُ للحـوارِ وقبولِ الآخر. تربيةٌ تخرّجُ كادراتٍ مقتدرةً تكونُ النواةَ الصلبةَ لحوكمةٍ صالحةْ تنهضُ بمجتمعاتِنا ودولِنا ومنطقتِنا.
ان التربيةَ المتزمتةْ المنغلقة على نفسها هي العلةْ ، بينما التربيةُ المفترضة انفتاحاً ومدنيَةً هي الحلُ والخلاصْ.
إنَّ منطقتَنـا غنيةٌ بنخبٍ أبدعت في شتى الميادين وفي كلِ العالمْ ، وهي توظفُ طاقاتِها خارجَ مداها الطبيعي. إننا نعملُ من أجلِ حشدِ الطاقات المبدعةْ ، واستردادِ من هاجر منها ، وخلقِ بيئةٍ مشجعةْ تسمحُ لها بتفجيرِ مواهبِها وقدراتِها وطاقاتِها في بلدِها وبغرضِ المساهمةِ في تنميتِها .تعملُ هذه النخبُ من أجل حوكمةٍ صالحةْ وتنميةٍ عصرية. ، كلَ ذلك ضمن تعزيزِ مفهومِ الشراكةِ المتكافئةِ والمتوازنةْ Partnership ، بعيداً عن كلِ شراكةٍ فوقية Paternalism تُمسِكُ بالقرارْ على حِسـابِ دوَلِنـا ، وتجعلُ الغريبَ مالكاً والمواطنَ مستأجراً ، وهذا ما لا نريدُه بالتأكيد ْ.

السيدات والسادة،
ان البعضَ أخطأ بالفكر، والبعضَ الآخرَ بالفعلْ، والبعضَ الثالثَ بالامتناعْ ، تعالوا معاً نصحِحُ الخطأ وننهَضُ بمجتمعاتِنا قبلَ خرابِ البصرةْ ، وقد خَرُبَتْ، وقبلَ خرابِ بيروتْ وقد أعيدَ إعمارُها. وما هذا المؤتمرْ سوى أولِ الغيثْ على املِ حلولِ مواسمَ خيّرةَ ترفعُ الظلامةَ عن المنطقةْ وتؤسسُ لمستقبلٍ واعدْ.

وشكراً لمتابعتكم.