Back to Lectures

لبنان والمشرق: الأبعاد المبدئية والآفاق العالمية"

2017-02-28

"

لبنان والمشرق: الأبعاد المبدئية والآفاق العالمية"

* * *

كلمـة فخامة الرئيس أمين الجميّـل
خلال
مؤتمر" الحرية والمواطنة - التنوع والتكامل"
المنعقد في القاهرة
في 28 شباط 2017

أتقدم أولاً بجزيل الشكر لهذه الدعوة الكريمة ولهذا اللقاء الهام للتداول حول موضوع " الحرية والمواطنة - التنوع والتكامل". إن هذه المبادرة تؤكد مجدداً على دور الأزهر كمؤسسة ودور علمائه وحكمائه، على رأسهم الدكتور أحمد الطيَب، في السعي المتواصل إلى إبراز الحق وإحقاقه. الإنسانية جمعاء لها في الأزهر دعامة للخير والمودة. فللأزهر منا كل التقدير وكل الاحترام وكل المحبة.
الكلام عن الحرية والمواطنة يفرض التوقّف على التجربة اللبنانية. فرغم المآسي المروّعة التي عاشها وطن الأرز على مدى العقود القليلة من استقلاله، ورغم استمرار التحديات الخطيرة التي يصيب بعضها لبنان في صميم وجوده، فإننا نستطيع أن ننظر إلى التجربة اللبنانية في التنوع والتكامل كأساس لضمان الحرية في إطار المواطنة، على أنها مثال مثمر يستحق المعاينة الدقيقة لتعميم ما حقّقه من مصالح، وبالطبع لتجنب ما عانى منه من مفاسد.

والمسألة بالنسبة لنا ليست نظرية ولا عرضية. فنحن أبناء هذا الشرق العربي الجريح، نحن نبات هذه الأرض، وما تعدد ثقافاتنا وقناعتنا وتوجهاتنا وإيماننا إلا ثروة لهذا الشرق، فمنه كانت الرسالات وفيه ابتدأت الحضارة وإليه تشخص الأنظار. هو الشرق المنهك الذي عاثت به أيدي العابثين فساداً والذي يواجه اليوم تساؤلات ومعضلات وجودية.

وقبل التطرق المباشر إلى التجربة اللبنانية، لا بد من الإشارة إلى بعض المعطيات العامة لتأطير المرحلة الحالية التي نعيشها جميعاً.
لسنا اليوم في صراع حضارات، رغم المحاولات المتكررة التي يبذلها البعض ليجعل من هذه المقولة حقيقة قائمة، ولكننا بالتأكيد في صراع حضاري. فصراع الحضارات المزعوم يفترض صداماً واختلافاً بين حضارات متباينة متناقضة، تحشد كل منها مكوناتها المتجانسة لإنزال الهزيمة بغريمتها. ويتفّق في هذا التصوير بعض أصحاب المقولات القطعية في العالم الإسلامي مع نظراء لهم في الدول الغربية، وإن جاهروا العداء لبعضهم البعض، لتمسي الأزمة العالمية حرباً بين الإسلام والغرب. غير أن معيارهم لفرز العالم إلى هذين الشقّين المتمايزين مجحف بل تعسفي. فالعالم الإسلامي لا يقف عند حدود الدول ذات الغالبية السكانية المسلمة، بل يتعداها طبعاً ليشمل المجتمعات التي تحتضن أقليات سكانية أصلية تعتنق الدين الإسلامي، وكذلك التي تقطنها جاليات إسلامية وافدة، أي أن العالم الإسلامي يتسع من حيث الواقع والمفهوم ليشمل معظم الكرة الأرضية.
وكذلك قيم التنوير التي تشكّلت كنظم سياسية واجتماعية وثقافية في القرون الماضية في القارة الأوروپية أولاً، لتتلاقى وتتلاقح مع ما هذّبها واستفاد منها وأفادها في كافة أرجاء المعمورة لتصبح بحقّ إرثاً عالمياً بامتياز. فلا يمكن لخصومها حصرها في الغرب، وهي اليوم مشاع للإنسانية جمعاء، ولا يمكن لبعض المتنطحين في الغرب نفسه زعم حصريتها لهم، وهم في فعلهم هذا يخرجون عن روحها.

هذا هو الواقع الذي ينفي تباين الحضارات، فيبطل الحديث عن صراعها أصلاً وكأنها كائنات قائمة بذاتها، بل إن الصراع مستعر داخل كل حضارة، فالواقع يشير إلى خطورة هذا الصراع الحضاري المتحقق بالفعل في كافة المجتمعات، بين توجه قطعي انطوائي خائف ومخيف، وآخر حضاري يدعو إلى كلمة سواء، إلى التعارف والتكامل واحترام التنوع. فخطوط التماس في هذا الصراع الحضاري ليست بين حضارات متباينة مزعومة، بل هي تشرذم مجتمعاتنا كافة، شرقيها وغربيها، وتجد من يصطف إلى كل جانب منها، البعض من هنا والبعض من هناك. فالرافضون لإنسانية الآخر والمسيئون لكرامة الآخر، والمتجاهلون فعلاً وامتناعاً لحياة الآخر، هم من هنا ومن هنالك، وليسوا حصراً او حكراً على مجتمع أو حضارة. وكما هو العالم اليوم، كان لبنان. وكما انتصر لبنان على القطعية وعلى الفئوية، فحصرها ودجّنها وطوّق مظاهرها، فرجاؤنا أن ينتصر العالم على أزمته الحالية.

أيها السادة،

لبنان وطن جامع لطوائف عديدة، مسيحيين ومسلمين وغيرهم، ومن المسيحيين من يتبع الطقس الشرقي ومن يتبع الطقس الغربي وغيرهم، ومن المسلمين من ينتمي إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ومن ينتمي إلى مذهب أهل البيت وغيرهم. وللبنانيين في تدينهم توجهات مختلفة. منهم من يحصر الحق بدينه، ومنهم من يرى تجليات للحق في دين الآخرين، ومنهم من لا يعنيه الشأن. وفي لبنان، كما في كافة المجتمعات، خلافات وانقسامات، منها ما لا علاقة له بالدين لا شكلاً ولا مضموناً، ومنها ما يوظّف فيه الدين والطائفة والمذهب دون ما يبرّر هذا التوظيف، ومنها ما هو بالفعل ذو بعد ديني. فجلّ المسائل الحياتية التي تعني المواطن اللبناني، من الأمن والعمل والصحة، لا مكان فيها للمزايدة على أساس ديني، ومن يسير في هذا الاتجاه يلقى الرفض والاتهام بالمتاجرة من المواطنين على اختلاف قناعاتهم الدينية. إلا أن التعبئة الطائفية تنجح في مواضيع توازن الإنماء وصحة والتمثيل مثلاً، في حين أن المسألة هنا هي في التوافق السياسي والالتزام بالميثاق الوطني ولا علاقة لها في الأصل بالإيمان والدين. ولكن في قضايا أخرى محدودة، نجد أن الدين بالفعل يشكل أساساً للخلاف، كما في قضايا الزواج المدني والأحوال الشخصية على أساس الحق العام، وهي قضايا يطالب بها عدد لا يستهان به من اللبنانيين، ولا سيما الشباب، فيما تعترض عليها جهات مختلفة لاعتبارات دينية. نحن هنا أمام مسائل مرتبطة فعلاً بالدين، ولم يجد اللبنانيون الحل الوافي لها بعد.

غير أن الخلاف في هذه القضايا، والاختلاف في المعتقد والدين في عموم المجتمع، لا يعنيان الصدام والاقتتال. فلبنان الذي عانى من حروب صغيرة وأخرى كبيرة على أرضه، منها معاركه هو مع ذاته ومنها حروب الآخرين، ملتزم اليوم بمجموعه بالسلم الأهلي القائم على أساسين. الأساس الأول هو العملية السياسية، بشكلها الداخلي وأبعادها الخارجية، وهي تعاني من الشوائب دون شك ولكنها تحقق القدر الكافي من النجاح الذي يمنع لبنان من الغرق. أما الأساس الثاني، وهو الأهم والأخطر، فهو العقد الاجتماعي الذي نشأ بين اللبنانيين، والذي يجسّد بعض أوجهه الخطاب السياسي اللبناني، ولكنه في جوهره وأصوله يبقى سابقاً للخطاب السياسي ومتفوقاً عليه.

هو العقد الاجتماعي القائم على قيم توافق عليها اللبنانيون ضمنياً وإن لم ينجحوا في بعض الأحيان في التعبير عنها نصاً ودستوراً كي تصبح المنطلق الذي تقوم عليه المواطنة الصحيحة. وأهم هذه القيم في الممارسة اللبنانية، مع إدراك القصور ودون زعم الكمال، هي الحرية، والكرامة، واللياقة، والثقة.

الحرية والكرامة صنوان لا يفترقان. فلا كرامة محفوظة إلا للحر، ولا حرية مصانة إلا بحفظ كرامة الآخرين. بالنسبة للبنانيين الذين عانوا من الاعتداء والتعدي على حريتهم وعلى كرامتهم على مدى قرون، فإنهم سطّـروا ملحمة في الإصرار على الحرية والسيادة إزاء الاستبداد، والاستبداد هذا لا يحصر بدين أو مذهب، فمن البيزنطيين إلى العثمانيين، ثم من الهيمنة السورية إلى الاحتلال الإسرائيلي، برز الإصرار الحاسم على الحرية والكرامة، إجماعاً في بعض الأحيان، وتداولاً بين المجموعات اللبنانية في أحيان أخرى، كرصيد يعتز به كل اللبنانيين في نهاية المطاف.

الحرية في لبنان هي حرية الفكر والمعتقد والإيمان، حرية الشعائر والطقوس، حرية القول والتعبير. والكرامة في لبنان هي كرامة الإنسان الفرد وكرامة الجماعة. الحرية شرط الكرامة، والكرامة شرط الحرية. والجامع بينهما هي اللياقة.

اللياقة ليست النفاق وليست التدليس، بل هي وحسب الإقرار بكرامة الآخر وحريته مهما كان مقدار الخلاف معه. وللمسيحيين اللبنانيين في توجيهات المجمع الڤاتيكاني الثاني المنعقد في ستينات القرن الماضي والداعي إلى الاحترام المبدئي للمسلمين، منطلقاً هاماً في هذا الصدد لتأصيل اللياقة في قناعاتهم الإيمانية. واللبنانيون كافة، على اختلاف توجهاتهم الدينية يعوّلون على الأزهر الشريف خاصة، وعلى كافة المرجعيات الإسلامية المعتبرة، لإبراز ما دعا إليه الإسلام من سماحة ولطف ورفق وقول حسن.
ولا بد لنا هنا من تثمين ما قد أنجز، فبوجه الترويع الفكري بل والتهديد السافر بالعنف، قدّم لنا الأزهر الشريف مثالاً ساطعاً على الوضوح الفكري والاستقامة المعنوية، فكانت شجاعته المشهودة بطرح الاوراق التنويرية التي صدرت عنه تباعاً. وبالإضافة إلى مكانته العالمية، فإن الأزهر الشريف هو أيضاً تعبير أكيد عن الدور المفصلي لمصر، الفاعل والأساسي على مستوى المنطقة كما على مستوى العالم أجمع. ونحن كلبنانيين وكعرب، كمسيحيين وكمسلمين، نعتز بأن اليد الممدودة بالصداقة والمودة هي الأساس الذي يعتمده عالمنا العربي. ونذكر بهذا الصدد بكل اعتزاز الزيارة التاريخية والبادرة الكريمة التي تمثلت بزيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله للڤاتيكان، وما حملته هذه الزيارة من إشهار وإشعار بأن حسن النوايا هي الأساس للتلاقي والتعارف.

وتظهر في لبنان القناعة المتحققة بأن احترام الآخر لا يعني التفريط بالقناعات بل هو الضامن لها، في ما يستقدمه من احترام متبادل. ففي لبنان محطات إذاعية وقنوات وفضائيات دينية، مسيحية وإسلامية، كل منها يصدح بالحق دون تفريط، ولكنها بمجموعها تدرك أن الطعن بالآخر والتشهير بالخلاف هو فعل نقصان لا فعل زيادة.

علم السياسة يتطلب أن تحقق الدول الأمن من أوجه مختلفة. أولها هو: "الأمن الصلب" أي منع العدوان والإجرام والإرهاب، ومن ثم أمن الموارد أي أمن الطاقة وأمن المياه والأمن الغذائي وكلها لضمان الاستقرار الاقتصادي والديمومة الحياتية. ونحن اليوم أمام انعقاد الحاجة لضمان "الأمن الثقافي"، وليس المقصود هنا الرقابة والقيود، بل صون حرية الفرد والجماعة بممارسة حقهم في الفكر والتعبير والدين والشعائر. والأمن الثقافي لا يتم بأعلوية المبادئ وفرض القانون، مع تأكيد الحاجة لهذه وذاك، بل من خلال مجتمع يشعر بالاطمئنان وتعمّ فيه الثقة. فالثقة بأن الوطن هو وطن جامع للجميع، على مسافة واحدة من الجميع هي الأساس الأول لاستمرار الأوطان، مهما تكاثر فيها الاختلاف. والثقة ليست منّة من سلطان أو منحة من حكومة أو مكرمة من زعيم، بل هي نتيجة تراكم لأفعال وأقوال ومواقف، "ولتربية سليمة " في المدرسة والجامعة، ولتنشئة قويمة في الأسرة والمنزل، ولثقافة سياسية راشدة في الساحة العامة. هي مهمة أجيال، يبدو لنا بأن المجتمعات في العديد من الأحيان سابقة للدول بشأنها. وهو الحال بالتأكيد في لبنان.

فيما نرى بروز التوجهات القطعية والمتطرفة وانتشار العنف الرافض للآخر في أكثر من مجتمع عربي، لا بد لنا من مراجعة ذاتية حول الفشل في التأسيس لثقافة اجتماعية وسياسية قائمة على القبول بالآخر. قد يكون سبب هذا الفشل أن الأنظمة الاستبدادية لم تكن معنية بارتقاء المواطن، وقد يكون بأن التضييق على هذا المواطن والتعدي على حريته وكرامته هو ما دفع بالبعض إلى العنف والرفض. نحن أمام واجب إنقاذ للذات ولمجتمعاتنا، مستفيدين من رصيدنا الأخلاقي الديني والحضاري الشاسع، كما من مجمل التجربة المعنوية والمادية على مستوى الإنسانية كافة. وهذه هي تحديداً المهمة التي أنطناها بأنفسنا في بيت المستقبل، المؤسسة اللبنانية المنفتحة على الذات والآخر، الناقدة للذات قبل الآخر، والمقرّة بفضل الحضارات كافة والمجتمعات كافة في السعي المشترك لبناء الإنسان الراقي في معاملته للآخرين والوطن، المتقدم في احترامه للإنسان. هي مهمة مجتمع ومؤسسة، ولكنها كذلك مهمة شخصية لكل فرد، وعليه، فمن مواقع المسؤوليات المختلفة التي ألقيت على عاتقي، كان هذا هو الالتزام المبدئي ولا يزال.
وعلى ضعفه وقصوره، يقدّم لبنان نموذجاً في رحاب المشرق العربي، للمجتمع المأزوم إنما القادر على الخروج من الأزمة، والقادر على أن يتطلع قدماً إلى غد تتحقق فيه المواطنة على أساس القيم التي كانت ولا تزال أساس وجوده: الحرية والكرامة، واللياقة والثقة.

أيّهـا السادة،
نظراً لأهمّية هذا المؤتمر، أقترح أن تتشكّل هيئة تضم ممثلين عن المشاركين، مهمتها متابعة مقرارته والتواصل مع كل الجهات العربيّة والدوليّة، الإسلاميّة والمسيحيّة المعنيّة، من أجل تحقيق أهدافه. على ان تتقدم الهيئة بتقرير حول أعمالها من أمانة سرّ اللقاء.