Back to Lectures

"لبنان والسير على حبل مشدود: تحقيق التوازن بين تأثيرات المحاور المتنازعة"

2019-05-03

كلمة الرئيس أمين الجميّل
في ندوة
"لبنان والسير على حبل مشدود: تحقيق التوازن بين تأثيرات المحاور المتنازعة"
بيت المستقبل- سرايا بكفيا
الجمعة، 3 آيار/مايو، 2019
* * * *

تكتسبُ هذه الحلقةُ أهميةً مزدوجةً:
أولاً بسببِ المرحلةِ الحرجةِ والدقيقةِ التي يمرُّ بها لبنانُ، حيث شاءت الظروفُ أن يتزامنَ التأزمُ السياسيُّ الداخليُّ والإقليميُّ مع تأزمٍ اقتصاديٍّ وماليٍّ خطيرٍ،
وثانياً لأنًهُ وعلى الرغمِ من أنها ليست المرةُ الأولى التي يسيرُ فيها لبنانُ على حبلٍ مشدودٍ، فهي المرةُ الأولى التي يجنحُ فيها بهذا الوضوحِ وهذه الحدّةِ إلى محورٍ سياسيٍّ في الإقليمٍ بما انعكسَ داخلياً غلبةً لفريقٍ سياسيٍّ على فريقٍ آخر. وقد أثبتً تاريخُ لبنانَ الحديثُ، أنَّهُ في كلٍّ مرّةٍ مالً فيها إلى جهةٍ في الإقليمِ أو خارجِهِ، كانَ الاستقرارُ يضطربُ.
* * * *
فرضت تركيبةُ لبنانَ التعدديةُ وموقعَهُ الجغرافيُّ الحساسُ نتيجةً للنزاعِ العربيِّ الإسرائيليِّ، اعتمادَ سياسةِ التوافقيةِ الديمقراطيةِ وحلَّ الأزماتِ بالتسوياتِ والتفاهماتِ.
إلا أن هذه "التوافقيةً" لم تعدْ تنفعُ اليومَ وسطَ المتغيراتِ الداخليةِ والإقلميةِ، من الصراعِ السنيِّ الشيعيِّ الذي تشهدُهُ المنطقةُ، إلى تغيّرِ خريطةِ النفوذِ في المنطقةِ، وصولاً إلى اختلالِ موازينِ القوى بين الطوائفِ اللبنانيةِ وإدخالِ لبنانَ في نزاعِ المحاورِ، ما جذُّرَ نفوذَ بعض القوى الإقليميةِ لاسيما إيران في الداخلِ اللبنانيِّ. أصبحَ تفاهمُ اللبنانيين اليومَ بحاجةٍ الى أكثرِ من توافقيةٍ تجترعُ حلولاً مؤقتةً لأزمةِ نظامٍ مستمرة منذ عقود، ونأملُ أن نتمكَّنَ معاً اليومَ، والبلادُ تسيرُ على حبلٍ مشدودٍ، من العثورِ على العصا التي يُمكنُ أن تحفظَ التوازنَ وتمنعُنا من السقوطِ.
وانطلاقاً من تجربتي الشخصية في الحكم في ظروف استثنائية صعبة مارست سياسة عصا التوازن إبان السير على هذا الحبل المشدود، ما ساعد على حفظ التوازن الضامن لوحدة البلد واستقلاله ودوره.
* * * *
منذ خروجِ لبنانَ من الحربِ، وقعَ سياسيوه في فخِّ فصلِ السياسةِ عن الاقتصادِ والاجتماعِ، متجاهلينَ الحكمةِ التقليديةِ التي تقولُ بأن استقرارَ الأحوالِ السياسيةِ وحسنَ الحكمِ السياسيِّ هما القاعدةُ الأساسيةُ لتحقيقِ النموِ الاقتصاديِّ والازدهارِ للمجتمعِ ككل.
لا يُمكنُنَا البحثُ في إصلاحاتٍ اقتصاديةٍ والسياسةُ في البلادِ مشلولةٌ بحكمِ تفريغِ الدولةِ من كلِّ مقوماتِها وتقويضِهَا ووضعِ اليدِ عليها وإقحامِ البلادِ في سياسةِ المحاورِ جعلتْنَا في غربةٍ عن لبنانَ الذي نعرفُهُ.
ولا يُمكنُنا الحديثُ عن إصلاحاتٍ اقتصاديةٍ في ظلِّ التشققاتِ العميقةِ التي تعصفُ بالاجتماعِ اللبنانيِّ وسطَ أزمةِ هويةٍ وانتماءٍ كبيرةٍ تَسببَ بها تمدّدُ الأصولياتِ الدينيّة المستوردةِ من الخارجِ وردودُ فعلِ الشارعِ اللبناني عليها.
ولا يُمكنُنا تحقيقُ إصلاحاتٍ اقتصاديةٍ في ظلّ غيابِ حوكمةٍ رشيدةٍ تعالجُ حالةَ التّصلبِ في شرايينِ الإدارةِ اللبنانيةِ عبرَ
تطبيق المؤسسة القانونية الضامنة للشفافية وحسن الإدارة
كما تحديث القوانين والأنظمة وتوسيع لمشاركة في صناعة القرارات، وتحسينِ مستوَى الأداء الوظيفي، وضمانِ جودةِ الخدماتِ للمواطنين وحفظِ حقوقهِم، وتعزيزِ قدراتِ الرقابةِ والمحاسبةِ.
مع العلم أن معظم أجهزة الرقابة والمحاسبة هذه معطّلة وخارج الخدمة، فظاهرة الفساد انتشرت بشكل غير مسبوق، بينما من تطالهم الاتهامات الشائعة يطالبون الشعب بالتقشف والتضحية.
ألله يستر.
* * * *
لن استبقَ مداولاتِ هذه الجلسةِ، لكن اسمحوا لي بأنْ استعرضَ لثوابتٍ قامَ عليها لبنانُ، واعتقدُ أننَا لنْ نتمكنَ دونَها من اكتشافِ عصا التوازن التي ستوصلُنا إلى برِّ الأمانِ.
الثابتةُ الأولى هي التمسكُ بالحيادِ الإيجابيِّ وبمعادلةِ "لا شرق ولا غرب" الذهبيةِ، حيادٌ صادقٌ يستتبعُ حيادَ الأرضِ اللبنانيةِ، "لا مقر ولا ممر"، وحيادَ الضميرِ اللبنانيِّ، "لا انحياز ولا تحزّب"، ويكونُ بالنسبةِ للبنانيين كنجمِ القطبِ، به نهتدي وعلى ضوئِهِ نَسيرُ.
الثابتةُ الثانيةُ هي التمسكُ بالمسلمات اللبنانية: الميثاقِ الوطنيِّ والدستور الذي انتفتْ معهُ صفةُ الملجأَ الديني عن لبنانَ ليتحولَ إلى وطنٍ لجميعٍ أبنائٍه بطوائفِهم كافة، دولةٌ حرةٌ سيدةٌ ومستقلةٌ لا يجوزُ لأحدٍ أن يخرقَ حرمةَ حدودِها وأن يعبثَ بكيانِها.
الثابتةُ الثالثةُ هي التمسكُ بالحرياتِ ليبقى لبنانُ بلدَ الديمقراطيةِ واحترامِ حقوقِ الإنسانِ، فإذا لم يستطعْ أن يكونَ لبنانُ كذلك، فلن يستطيعَ أن يكونَ شيئاً غيرَ ذلك.
الثابتةُ الرابعةُ هي التمسكُ بلبنانَ الفكرةِ والنموذجِ والرسالةِ، لبنانَ الحوارِ والتواصلِ والتعايشِ بين مكوناتٍ ثقافيةٍ متعددةٍ، لبنانَ الأدبِ والشعرِ والفنِ، لبنانَ الحداثةِ والحضارةِ، لبنانَ صانعَ الأفكارِ والأحلامِ.
* * * *
إن الإمساكَ بعصا التوازنِ يبدأ باحترامِ هذه الثوابتِ، وبالعملِ على تحقيقِ الحوكمةِ الرشيدةِ التي تقومُ على تعزيزِ العملِ المؤسساتيِّ وإعلاءِ سيادةِ القانونِ والحرياتِ العامةِ والمساواةِ بين المواطنين على اختلافِ مشاربِهم.
اتمنى لهذه الجلسةِ أن تخرجَ بما فيه خيرِ الوطن وأشكرُ جميعَ المشاركين فيها، كما أتوجَهُ بشكرٍ خاصٍ إلى مؤسسةِ كونراد آديناور، شريكتُنا في البحثِ عما فيه مصلحةِ الوطنِ ومصلحةِ المنطقةِ برمتِها.