Back to Lectures

انتفاضة الاستقلال " الحدث – المنعطف في تاريخ لبنان المعاصر - جامعة الروح القدس الكسليك

2005-04-12

جامعة الروح القدس الكسليك، في 12 نيسان 2005

" انتفاضة الاستقلال " الحدث – المنعطف في تاريخ لبنان المعاصر

عنوان:

لا أدري إن كان مصادفة أن تحلّ ذكرى الثالث عشر من نيسان، هذا العام، فيما لبنان يعيش تحوّلاً في أوضاعه يقلب معنى هذه الذكرى بالذات .
لقد قيل إنّ من الأحداث الطارئة ما هو من فعل الصدف، أي من التلاقي، مصادفة، بين حدثين إثنين فينتج عنهما ثالث غير متوقع وغير محسوب أو منتظر. وما حدث في لبنان، يوم الرابع عشر من شباط، يقارب هذا التوصيف: كتلة من القهر المتواصل على مدى ثلاثين عاماً تتلاقى مع التفجير الذي أودى بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فأشعلها ثورة.

وفي أ ي حال ، إنّ ما يحدث في بلد الأرز منذ أسابيع لا يقلّ عن ثورة. ثورة حقيقية، وبما تعنيه الثورة من تغيير غير عادي، ينقل البلد من حال الى حال، وعلى كل المستويات تقريباً، وبخاصة تلك المؤثرة في كينونته ووجوده السياسي والوطني.
ثورة أعظم ما فيها كونها ثورة بيضاء، لا دم فيها ولا نيران مشتعلة.
فقط حشود بمئات الألوف تملأ الساحات، وبدلاً من العنف أناشيد وترا نيم، وإضاءة شموع، وصلوات، وأدعية الى السماء أحلى ما فيها تعدّ د دروبها الى العلى وطقوسها.
فلم يسبق أن قدّم لبنان عن نفسه هذا المشهد، أو رأى الى نفسه على أنّه كذلك. وفي الظاهرة ما يدهش، وما يتعدّى التداخل بينها وبين العوامل الخارجية، أو بينها وبين هذه اليقظة الدولية المفاجئة على مصيره .
واذا صحّ أنّه كان مقدّراً أن يصبح لبنان طليقاً بعد احتجاز وارتهان كاملين، إلاّ أنّه ما كان ليستحقّ الحرية والسيادة والاستقلال، لولا تمرّده ونزوله الى الساح.

أو بكلام آخر، ما كان للقرار 1559، مثلاً، أن يصنع ما صنعته شهادة الرئيس رفيق الحريري التي، إضافة الى قيمتها الفائقة من الناحية الانسانية، كانت الصاعق الذي لا بدّ منه لتفجير مكنونات تتراكم منذ زمن. إذ ليس من قبيل المؤاساة فقط تحلّقت الناس حول ضريحه، مسيحيين ومسلمين، ومن كل المذاهب. إنّها إرادة المصالحة التي ما أن عبّرت عن نفسها حتى استحالت ثورة.
ثورة على الذات، أولاً، عندما تخطّى اللبنانيون أنانياتهم كلّها، الشخصية، والطائفية، والحزبية، واندفعوا بمئات الألوف الى ساحة الشهداء، وكلّ الساحات، تحت علم واحد، وبصوت واحد: حرية، سيادة، استقلال، وكما لم تعرفه الساحات كلّها، لا في العام 1920، لدى إعلان " دولة لبنان الكبير " ، ولا في العام 1943، لدى إعلان الاستقلال الكامل الناجز. فثمة جديد في الحدث الجديد، وهو أنّ المصالحة الوطنية هي بين الناس، لا بين القيادات فقط، أو الطوائف فقط، او النخب السياسية فقط، كما انّ التعاهد على العيش معاً، دائماً والى الأبد، هو بين أفراد، بل مواطنين، لا بين جماعات طائفية أو مذهبية أو حزبية.

حدث هذا كلّه على أرقى مستوى في الأداء: فلا تدافع، ولا قفز من فوق الحواجز والأصول الديموقراطية، ولا أي فلتان هو ملازم، عادة، لكل تحرّك جماهيري عارم. إنّه مجتمع بلغ من الرشد السياسي ما يؤهّله لأن يكون مسؤولاً عن نفسه في كلّ الظروف والأحوال .

أنّه يستحق الاستقلال والسيادة .
وهو يستحقّ ايضاً الديموقراطية لا السيادة والاستقلال فقط .
بل لعلّه يقول، وبالفم الملآن، ولأوّل مرّة: إنما الاستقلال والسيادة من اجل أن يكون لبنان مثالاً ديموقراطياً لا أي مثال .
أمّا أن تكون الحشود حشوداً شبابية في لونها الغالب، وفي طلائعها خصوصاً، وصبايا في عمر الورود، فتلك هي الظاهرة الأخرى التي لا تفسير لها إلاّ انّه لبنان الغد الذي يسبق نفسه، قافزاً من فوق الآجال والاستحقاقات كلّها، معبّراً عن إرادته الآن قبل الغد ... أو فلنقل، عن أحلامه التي لا غنى عنها لأي غد.

فإن لم يكن هذا كلّه ثورة ، فماذا يكون ؟
إنّها، والحق يقال، ولادة جديدة للبنان، لا تتسع لها أي جمهورية من الجمهوريات السابقة، لا الأولى، على رغم ما أسست له من استقلال وديموقراطية، ولا الثانية التي ولدت ميتة أو تمّ وأدها وهي جنين، وأعني بها جمهورية الطائف، التي استعيض عنها بنظام أمني، مخابراتي، وبالتالي، استبدادي، يقطع الطريق على كل بديل، بل يغتال كل البدائل. لكنّه لم يحسب حساباً لتبدّل في الأحوال يسقط ممالك وعروشاً، أحياناً، وإمبراطوريات، ولا حسب حساباً لهذه اليقظة الوطنية الشاملة، وهذا النضج السياسي لدى جيل كامل قيل عنه إنّه جيل لاهٍ، غافل لا يعرف إنتماء لوطن، فكذّب القول وكل الأقوال المماثلة.

إنّه جيل يطالب بجمهورية أخرى، ثانية أو ثالثة لا فرق. المهمّ أن تكون جمهورية حقيقية، لا غطاء لنظام قبلي أو عشائري أو إستبدادي يخجل بحقيقته .
جمهورية لا تمديد فيها للحاكم أو تجديد مهما علا شأنه أو عظمت إنجازاته، بل مساءلة له ومحاسبة على أعماله، بكل الوسائل الديموقراطية، بالانتخابات، أو بالتظاهر، أو بالاضراب، أو باللجوء الى القضاء العالي، وعند الضرورة بإرغامه على الاستقالة. وهذا حتى يصبح تداول السلطة، على كل المستويات، عادة متأصّلة في النفوس والعقول، ومثلها ممارسة الحريات على أنواعها، والفصل بين السلطات، وحكم القانون، واستقلال القضاء، والاستغناء الكامل عن الزبائنية في كلّ أشكالها، طلباً لحق، أو دفاعاً عن حق، أو تخلّصاً من ظلامة .
والصحيح أنّ ما يحلم به هذا الجيل الثائر منذ أسابيع، هو الدولة الحديثة، أو المدنية، وبما هي مشروع خلاص للبشر على الأرض لا في السماء، أو قبل الوصول الى السماء.

إنّ من جملة الاستحقاقات الآتية بعد انتهاء زمن الهيمنة والتبعية، هذا الاستحقاق الكبير.
فالاستقلال آتٍ، بلا ريب، مع السيادة .
ولكن، ماذا بعدهما، أو بعد إنتصار هذه الثورة البيضاء، بل بعد هذه الولادة الجديدة للبنان؟
فلنبدأ بإعداد العدّة لهذه الجمهورية التي لا هي، طبعاً، دولة الفارابي أو جمهورية أفلاطون، إنها فقط البديل اللائق من جمهورية التبعية والقمع والفساد والاغتيالات، بدءاً بتطبيق إتفاق الطائف الذي كان ولا يزال، بالنسبة إلينا والى جميع اللبنانيين، المدخل الذي لا بدّ من عبوره للوصول الى الدولة المنشودة.
وهي، بلا ريب، آتية تفرض نفسها على الجميع. فرياح التغيير لن تترك هياكل بالية، وأصناماً حتى لو كانت من فولاذ أو حديد.