Back to Lectures

الشرق الاوسط وآفاق التغيير

2004-05-21

الشرق الاوسط وآفاق التغيير

اميـن الجميّـل

* * *

رابطة البترون الانمائية والثقافية
الجمعة، 21 أيـار 2004

ايها الاصدقاء،

إسمحوا لي، بدايةً، أن أعدّلَ بعضَ الشيء في الغايةِ من هذا اللقاء، وإن جاء ذلك مخالفاً للدعوة التي وُجّهت إليكم. فالدعوة دعوة الى الاستماع الى محاضرة، لكنني لن ألقي عليكم محاضرة تستمعون اليها بما عُرف عنكم في هذه المنطقة العزيزة من لياقة وحسن ضيافة ونمضي .

وليس وارداً عندي، طبعاً، أن أتخذَ من هذا اللقاء فرصةً لإلقاء خطبة تدغدغ مشاعركم طلباً لتصفيقٍ أو تهليلٍ أو ولاءٍ.

على العكس من هذا كلّه دعونا نتطارح معاً بعض الاسئلة التي هي على كل شفة ولسان لكنها باقية بلا جواب. ويأتي ذلك في سلسلة من اللقاءات التي نسعى اليها وصولاً الى ما يقارب الرؤية المشتركة للمستقبل القريب على الأقل، مستقبل هذا البلد وشعبه وأجياله الطالعة .

ولعلّ السؤال الذي يختصر كل الاسئلة هو السؤال عما إذا كان من نهاية لهذا الليل الذي زُجّ فيه لبنان منذ سنين، ومتى، وكيف. وللامر علاقة بما يحدث من حولنا، بالمتغيرات التي تتوالى على هذه المنطقة التي يسمّونها الشرق الاوسط. وقد بات واضحاً ومسلّماً به أن ما يعانيه لبنان هو إنعكاس، بل إمتداد لما يحدث في محيطه، بل انه رهينة، بكل ما لهذه الكلمة من معنى، رهينة ظروف وأوضاع وإرادات إقليمية ودولية تدوم منذ ثلاثة عقود، وبالتحديد منذ تمّ الربط بين مصيره ومصير ما يسمّى أزمة الشرق الاوسط، هكذا من دون استئذان أحد من أصحاب الشأن والعلاقة والمصلحة .

إلاّ إن الاحداث الجارية، من فلسطين، الى افغانستان، الى العراق، وصولاً الى ليبيا والسودان، ومروراً بالاردن والمملكة العربية السعودية ، ناهيك عن الثورة في العلاقات الدولية التي تسبّب فيها وصول الارهاب الدولي الى قلب الولايات المتحدة بالذات ... إن في هذا كلّه ما يدلّ، كفاية، على عظم التغيير الذي ندخل فيه ، نحن وشعوب هذه المنطقة . والوقوف على حقيقة هذا التغيير وأبعاده لا يعني مراهنة عليه، بمعنى الاستعانة بالخارج كما يحلو لبعضهم أن يقول، وهو في الحقيقة يخاف على ما ينعم به من سلطة ونفوذ ومغانم بفضل تدخل خارجي مكشوف ومعلن. بل إن من واجبنا تتبّع هذه المتغيّرات لمعرفة السبيل الكفيل باخراج بلدنا من النفق المظلم الذي دفع إليه، ولاغراض خارجية. فلنستعرض معاً أوجه هذا التغيير وفصوله :

أولاً - يجب أن يكونَ واضحاً لدينا أن السلام في الشرق الاوسط يمرّ بتغييرات واسعة، صعبة، وشاقة، ومكلفة. إذ ليس سهلاً أبدا إدخال دولة اسرائيل، التي هي أشبه بجسم غريب، في بنية هذه المنطقة لتقوم بينها وبين محيطها العربي والاسلامي أو الشرق أوسطي علاقة طبيعية ومعقولة. الاسرائيليون أنفسهم يعرفون ذلك، وثمّةَ مفكرون وباحثون إسرائيليون يتساءلون عمّا إذا كانت اسرائيل ستصبح مقبولة في هذا المحيط إذا لم يصبح المجتمع الاسرائيلي نفسه مجتمعاً شرق أوسطياً. فدون هذا التطبيع موانع، مادية ومعنوية هيهات أن تزيلها الاتفاقات المكتوبة ومعاهدات الصلح وما هو في باب التسويات السياسية. ولعلّ هذا ما يفسّر إنهيار كل الاتفاقات التي تمّ التوصل اليها فيما عملية السلام تدور على نفسها منذ زمن ومعها كل اشكال التفاوض في الامس واليوم، ناهيك عن معاهدات السلام بين مصر واسرائيل، وبين الاردن واسرائيل التي لا تزال أشبه باتفاقات وقف اطلاق النار او الهدنة الدائمة.

وفي مطلق الاحوال، يجب ألاّ ننسى أن كل البنى السياسية والعسكرية والامنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، القائمة في هذه المنطقة، قد تأسست على الحرب، بمعنى أنها أدوات حرب لا أدوات سلام. فيجب أن تتغيّر. وتغييرُها ليس سهلاً لا على العرب ولا على اسرائيل، سواء كان ذلك قبل الحلّ النهائي أو بعده. ففي الحالين تغيير في الحكومات والانظمة والسياسات على انواعها ، وتسريح جيوش جرّارة تصبح عبئاً على الانظمة والحكومات ومشروع انقلابات متتالية. والمثال على ذلك الازمة التي تعيشها الانظمة العربية التي أنتجتها الانقلابات العسكرية في الخمسينات وبنت شرعيتها على التصدّي لاسرائيل او على ازالتها من الوجود . فلا هي قادرة على التصدّي ولا هي موثوق فيها بالقدر الذي يمكّنها من الدخول في مغامرة السلام . فمن أين تستمدّ شرعية بقائها اذا لم تتغيّر وتغيّر في ذاتها، أو تصلح نفسها كما يقال ، مع ما في هذا الاصلاح من مجازفة بوجودها بالذات ؟

ثانياً – من النافل القول إن النظام الاقليمي، العربي الهوية، الذي قام في أعقاب الحرب الكونية الثانية، والمتمثل في جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع المشترك، هو في حالِ تداعٍ وانهيار، كما لو أن أغراضَه وأسبابَ وجوده قد إنتفت. وكلُ المحاولات الرامية الى ترميمه او تدعيمه باءت بالفشل. ولا بديلَ منه، بعد، أو ربما كان البديل شرق أوسطي الطابع لا عربي الهوية والانتماء. وفي أي حال، إن تأسيس جامعة الدول العربية كان بايحاء بريطاني، يوم كانت بريطانيا العظمى هي المسؤولة عن أمن الشرق الاوسط في وجه التمدّد السوفييتي في اتجاه المياه الدافئة وآبار النفط. بل كانت جامعة الدول العربية أشبه بنواة لنظام شرق أوسطي يشمل تركيا وايران وباكستان برزت خطوطه واضحة في مشروع حلف بغداد، في منتصف الخمسينات، وباشراف اميركي مباشر. لكن الثورات والانقلابات العربية، وبدعم سوفييتي صريح ومكشوف، حالت دون اكتماله وتطبيقه، ليصبح العرب عربين، الواحد مع الغرب، والآخر مع الشرق، وفي إطار الحرب الباردة بين الجبّارين الدوليين .

وليس سرّاً أن ما يحدث الآن هو محاولة أخرى مماثلة للامساك بأوضاع هذه المنطقة، أو بالاصح لملء الفراغ الذي تركه سقوط الامبراطورية العثمانية، بعد الحرب الكونية الاولى، وقصّر عنه العرب .

يقولون إن إتفاقات سايكس – بيكو، عهدذاك، هي التي شرذمت المنطقة العربية وحالت دون توحّدها في دولة عربية واحدة تملأ هذا الفراغ او تحدّ منه، كما كان مفترضا حصوله، او كما كان العرب موعودين به. وربما في هذا القول بعض الحقيقة، لكنّه، بالتأكيد ليس الحقيقة كلّها. فهناك، طبعاً، مطامع الدول الكبرى، في الامس واليوم وفي كل حين، في منطقة ذات أهمية بالغة، في موقعها الاستراتيجي كما في ثرواتها الطبيعية واسواقها. لكن، هناك أيضاً التخلّف العربي، بل التقهقر العربي الذي بدأ مع سقوط الدولة العبّاسية، في القرن الثالث عشر ولم ينته بعد. ولولا ذلك لكانت هناك انتفاضة عربية ضدّ الهيمنة البريطانية والفرنسية مثل التي قادها كمال اتاتورك واخرجت بلاده تركيا من أعظم هزيمة في تاريخها بانهيار امبراطورية بني عثمان، وعوّضت عنها بدولة حديثة ومستهابة لا تزال حتى الآن أحد مراكز الثقل في هذه المنطقة. لقد واجه اتاتورك أيضاً الجيوش البريطانية والفرنسية واليونانية، لكنّه حاربها بضراوة وأرغمها على الرحيل.

والحقُ يقال إن الانتفاضة العربية الوحيدة في هذا الزمن هي تلك التي عبّر عنها جمال عبد الناصر وتجسّدت في ذلك القرار الجريء بتأميم قناة السويس في العام 1956، فهزّ العالم وألهب الحماسة في صدور الملايين. لكنّها عوضاً عن أن تكتمل بدولة حديثة وديموقراطية، عادت تتجمّد في ديكتاتورية ونظام استبدادي حوّل الانتصار الكبير في معركة السويس الى هزيمة في حرب حزيران 1967 . ولا يزال النظام الاستبدادي هو النموذج الرائج في المنطقة العربية، من مشرقها الى مغربها.

ثالثاً – واضح، إذاً، أننا امام عملية تغيير واسعة عنوانها "إعادة تشكيل الشرق الاوسط" تعلنها الولايات المتحدة، صراحة، وتتولّى المبادرة فيها، والتنفيذ أيضاً، وقد قطعت فيها أشواطاً.

أمّا أين يبدأ الشرق الوسط وأين ينتهي، فالأكيد أنه يتجاوز المنطقة العربية، أو "الشرق الادنى" كما كان يقال في زمن الهيمنة البريطانية. وتجدر الملاحظة، هنا، أن لا هذه التسمية أو تلك تعبّر عن هوية لشعب أو لمجموعة شعوب. ففي الحالين مصطلح " الشرق الاوسط " مصطلح أوروبي ، وغربي عموماً، مردّه الى قرب هذا الشرق او ذاك من اوروبا. إنّه " الادنى " للدلّ الى المشرق العربي او المنطقة المعروفة باسم الهلال الخصيب ، أي العراق وسوريا ولبنان والاردن وفلسطين، او هو " الاوسط " ليشمل تركيا وايران ، مروراً ببلدان الخليج العربي، وصولاً الى باكستان وافغانستان، ولا يستثني، طبعاً، مصر والسودان وليبيا وبلدان المغرب العربي: الجزائر وتونس والمغرب .

ولعلّ هذا ما عنته الادارة الاميركية بكلامها على "الشرق الاوسط الكبير"، ومن ضمنه، طبعاً، دولة اسرائيل التي يراد تطبيع وجودها مع هذا المحيط الواسع.
وأمّا "إعادة التشكيل" فتعني الربط ما بين هذه البلدان في اطار نظام إقليمي جديد يتأسس على ديموقراطيات أو ما يقاربها لا على أنظمة إستبدادية أثبتت التجربة أنها لا تنتج إلاّ التخلّف والارهاب.

ولسنا، هنا، الآن لنصدرَ احكاماً على هذا المشروع الطموح جداً، أو على هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر ومقدار الحق فيها او الباطل. فما يهمّنا، أولاً، هو الوقوف على التغييرات التي أحدثها هذا المشروع، وما يمكن أن تؤدّي اليه من تغييرات لاحقة، سلبية او ايجابية. إننا، بلا ريب، ندخل في حقبة جديدة من تاريخ هذه المنطقة، المجهول فيها اكثر من المعلوم ، شأنها شأن كل التغييرات الكبرى، الواسعة المدى، والعابرة للحدود السياسية، وللقارات أحياناً، يراها المؤرخون في ما بعد، ولا يراها معاصروها والذين يعيشون مرّها او حلوها.

لكنّ الأكيد أنها حقبة مختلفة كل الاختلاف عمّا سبقها. فهي ليست، مثلاً، كما قبل "11 ايلول" ، ولا كما قبل إسقاط نظام طالبان في افغانستان، ولا كما قبل إسقاط نظام صدّام حسين في العراق، ولا كما قبل حلول الولايات المتحدة في العراق وحوله دولة شرق أوسطية أيضاً إضافة الى كونها الدولة الاعظم على المستوى العالمي، ولا، خصوصاً، كما قبل نظرية " الردع المسبق " التي قرّرتها الولايات المتحدة لنفسها ورفعتها الادارة الاميركية الحالية الى مستوى العقيدة أيضاً، والتي تعني اللجوء الى القوة العسكرية في التعامل مع المخاطر. وهذا يعدّ، بالفعل، ثورة في العلاقات الدولية لا بدّ من أن تكون إحدى سمات القرن الواحد والعشرين .

فهذه متغيّرات لا رجوع عنها وإن كانت لا تزال تصطدم برفض او ممانعة او مقاومة كالتي تتوالى فصولها، دموية، في العراق .

رابعاً – انا ممن توقعوا ما يحدث الآن في العراق ولم أكن اتنبّأ او ارجم في الغيب. كنت، فقط، قارئاً مواظباً للتاريخ وللاحداث الاقليمية والدولية، كما بالفكر الذي يقود خطى الدولة الاعظم في هذا الزمن، إضافة، طبعاً، الى خبرتي كرئيس لهذا البلد في أسوأ ظروف. فحاولت، جاهداً، وبما لي من علاقات وصداقات شخصية في اميركا وفي العراق، وضع كل فريق في حقيقة الآخر، لعلّ وعسى. فتنقلت ما بين بغداد واشنطن مرّة ومرّتين وثلاثاً، ولكن بلا طائل. فتوالي الاحداث كان أسرع وأسبق من تنقلاتي نفسها، فضلاً عن المواقف المتخذة في الجانبين كانت أشبه بقيود عليهما يتعذّر التفلّت منها. فوقعت الحرب، وأحدثت ما أحدثته من تغييرات لعلّ أهمها في تلك المرحلة سقوط النظام الذي أثبت أنّ إصلاحه من الداخل يعني انتحارا له، عنيت به نظام صدّام حسين، الامر الذي جعل إسقاطه من الخارج جائزاً او مطلوباً او مرحّباً به. وتلك هي حال كل نظام من هذا الطراز .

ولكن، أين البديل، أو ما هو البديل طالما أن المسألة تتعدّى العراق لتدخل في إطار ما يحكى عن " اعادة تشكيل الشرق الاوسط " او عن " السلام في الشرق الاوسط " ؟

أستعيد، هنا، ما قلته في محاضرة دعيت الى إلقائها من خلال أحد أكبر المنابر الفكرية في الولايات المتحدة، وأعني به " معهد كينيدي " في جامعة هارفارد. وكان ذلك قبل عشرة اشهر تقريباً، وبالتحديد في أوائل تموز من العام الفائت .

قلت : " من حق شعوب الشرق الاوسط أن تتساءل حول طبيعة التدخل الاميركي في هذه المنطقة واغراضه، وهل سيليه الانسحاب والفوضى أم سيكون واسطة الى قيام تنظيم اقليمي جديد افضل من الذي سبقه واكثر استقرارا ، او الى اين الهيمنة الاميركية على الشرق الاوسط بعد الانتصار الساحق في افغانستان يليه مباشرة الانتصار الآخر على النظام البعثي في العراق " .

وقلت أيضاً : "أعتقد أنه رغم السلطة الساحقة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، يظلّ العرب، والعرب وحدهم، هم اصحاب الشأن في اعتبار التدخل الاميركي في الشرق الاوسط فاشلاً او ناجحاً. وتحديد النجاح او الفشل من منظار العرب امر بسيط للغاية: هل تسعى أميركا الى احتلال فقط أم الى شراكة . والجواب عن هذا السؤال هو الذي يحدّد شرعية الدور الاميركي أم عدم شرعيته . وإذا رأى العرب، مثلاً، أن الدور دور احتلال كانت ردّة فعلهم، بالتأكيد، مقاومة تتخذ في بعض الاحيان أشكالاً عنيفة وغاية في التطرّف. ويعلّمنا التاريخ أن المقاومة تتغذّى دائماً من عاملين، العامل القومي، والعامل الديني " .

وذكّرت الحضور، ساعتذاك، وهوحضور نخبوي بامتياز، بالفارق ما بين التدخل الاميركي العسكري على الساحة الاوروبية في الحرب الكونية الاولى، وذاك الذي تمّ في الحرب الكونية الثانية. في الحالة الاولى ساعدت الولايات المتحدة اوروبا على الانتصار على المانيا، ثم عادت فانسحبت في صورة مفاجئة... فراحت اوروبا تتخبّط في الفوضى، الأمر الذي أغرقها، بعد عشرين عاماً، في نزاع أكثر ضراوة. وإذا بالولايات المتحدة تعود الى التدخل ثانية، في الحرب الكونية الثانية، ولكن، على نحو مختلف. فثبتت حضورها على القارة الاوروبية من خلال ما عرف ب" عقيدة ترومان " و " مشروع مارشال " متوخية قيام نظام اوروبي جديد كان من ثماره ونتائجه نشوء الاتحاد الاوروبي الذي يعتبر أحد أهم الانجازات التي شهدها تاريخ الدبلوماسية حتى هذه الساعة .

وقد اتخذت من تلك المناسبة فرصة للتعبير عن اقتناع لديّ بوجوب قيام نوع من الشراكة بين الولايات المتحدة ودول الشرق الاوسط لمعالجة شؤون المنطقة ومشكلاتها . فلا انا ممن يقلّلون من أخطاء الولايات المتحدة – وهي بلا ريب ترتكب أخطاء عديدة في هذه الايام – ولا انا ممن يستسيغون العنجهية التي تظهر بها أحياناً في التعامل مع سائر الدول، صغيرة كانت او كبيرة. لكنني لست أيضاً ممن يلعنونها كوسيلة للاحتجاج على هذه العنجهية او لارغامها على الرجوع عن اخطائها. فقلت، وما زلت عند قولي، " إن الولايات المتحدة هي امام فرصة حقيقية تخوّلها اقامة منطقة شرق اوسطية جديدة شرطها الاساسي الاعلان عن ارادة صادقة في الوصول الى شراكة حقيقية مع شعوب المنطقة، وخصوصاً الشعوب العربية، بالاقوال والافعال معاً التي تثبت انها لا تبغي الهيمنة او الاحتلال، بل مساعدة هذه الشعوب على اعتماد حلول خاصة بها للنهوض باحوالها... واذا لم تقدّم الولايات المتحدة رؤية راسخة في مصطلحات الشراكة، مترجمة بتقدّم ملموس للمجتمعات العربية، فلن تحصد التدخل في الشرق الاوسط إلاّ التطرّف والارهاب".

خامساً – إلاّ أن هذه الشراكة تقتضي أن يكون العرب أيضاً ذلك الشريك الحقيقي الذي عجزوا عن أن يكونوه حتى الآن. والمسؤولية من هذا القبيل مسؤولية عربية في المقام الاول، لا أميركية فقط، ولا اوروبية او غربية فقط. ونادراً ما كان العرب فريقاً واحداً، بل نادراً ما كان هناك تضامن عربي حقيقي. لقد طلبوا الوحدة والتوحيد والاتحاد عن طريق الخطاب الايديولوجي في الأمة الواحدة، وفي الوطن العربي الكبير من المحيط الى الخليج، الذي يتجاهل كل تنوّع او تعدّد – وهم في الحقيقة على صورة الشعب العراقي بعد انفراط القالب البعثي وتبعثر مكوّناته – فضلاً عن أنه خطاب لا ينتج الاّ الديكتاتورية، او جملة ديكتاتوريات متزاحمة على الديكتاتورية الواحدة ومتقاتلة .

إن المدخل، عربياً، الى هذه الشراكة، سواء كان مع اميركا، او مع اوروبا او مع المجتمع الدولي، هو في سلوك درب الديموقراطية الليبرالية التي تكاد تعمّ الجهات الاربع من الكون باستثناء المنطقة العربية. فهكذا توحّدت اوروبا، وهكذا يتوحّد العرب ويكون لهم الحضور المرتجى على المستوى الدولي والمشاركة الفعلية في السياسة الدولية .

والفرصة مؤاتية، او بالاصح لا مفرّ امام العرب من سلوك هذه الدروب بعد النزول الاميركي في العراق، وإطاحة النظام الذي لا بديل منه إلاّ الديموقراطية الليبرالية، إلاّ النظام الذي يكفل التعدّدية واحترام الاقليات الدينية والاثنية... او الفوضى. وكلاهما قابل للانتشار، بالعدوى على الاقل، هنا وهنالك، حول العراق وبعده وفي كل مكان. فأيّهما أجدى، او أقلّ أوجاعاً ؟

وليست مصادفة أن ترتفع الاصوات من كل جانب منادية بالاصلاح، وبالاصلاح السياسي خصوصاً، وأن تكثر العرائض المقدّمة الى أهل السلطة، الى الملوك والامراء والرؤساء الذين هم بمثابة ملوك أو أمراء، تطالب برفع الظلم عن هذه الاقلية او تلك، وأن تمتلىء المنطقة بجمعيات الدفاع عن حقوق الانسان. فلم تشهد المجتمعات العربية يقظة على الديموقراطية وحقوق الانسان في مثل هذا الاتساع. وتحار الممالك والجمهوريات التي هي أشبه بممالك، كيف تردّ على هذه اليقظة وتخفف من حرارتها. لكنها لا تجد مفرّاً من الاستماع او بعض الاصغاء اليها، والتعامل معها بالتودّد المقرون بالحذر. تنفتح على بعض الاصلاحات الجزئية، لكنّها تتلطّى بالف ذريعة وذريعة لتبعد عنها الكأس المرّة. ومن هذه الذرائع القول ان الاصلاح يجب أن يكون " وطنياً " وليس مستورداً من الخارج. ولكن، لماذا نظام صدّام حسين لم يمنع التدخل الاميركي بالتضحية ببعض إمتيازاته واحتكاراته وقد كانت الفرصة متاحة له ؟

أمّا الإدعاء بأن المواجهة القومية تحتّم التريث والتأنّي، فقد كان الردّ عليه بالعنوان العريض: " العاجز عن الاصلاح هو العاجز عن المواجهة " .

والحال أن هذه اليقظة على الديموقراطية وحقوق الانسان، ستكون، بالتأكيد إحدى سمات المرحلة الآتية، مهما اشتدّت مقاومتها بذريعة مقاومة المشروع الاميركي المشبوه او مقاومة الاحتلال الاميركي في العراق .

سادساً – من المفترض أن يكون لبنان مستفيداً من هذا التحوّل التاريخي، بعدما عانى الكثير من التناقض بين نظامه الجمهوري الديموقراطي البرلماني، وما جاوره من أنظمة لا ديموقراطية ولا برلمانية، ولا جمهورية حقيقية. فلقد كان صعباً جداً عليه أن يكون بلد ديموقراطية وحريات فيما هو، من هذا القبيل، أشبه بجزيرة في بحر هائج. او بكلام آخر، كان صعباً على الانظمة الاستبدادية المحيطة به أن تتحمّل هذا النموذج يتحدّاها ويخالفها ويشكّل، بالتالي، إغراء لشعوبها. وقد إزداد هذا التناقض حدّة يوم إرتدت العروبة ثوب الاشتراكية و"التقدّمية" الاكثر رجعية وأصبحت عروبة لبنان موقوفة على مدى إقتدائه بما قام من حوله من أنظمة ترفع شعارات الوحدة والأمّة الخالدة والاشتراكية. فبات "تعريب لبنان" غطاء لتصدير هذه التجارب الاستبدادية اليه، وبالتالي، واسطة لإلغاء استقلاله ووجوده السياسي .

لقد بات واضحاً أن أمن لبنان نفسه، واستقراره، وبالتالي، ازدهاره الاقتصادي والاجتماعي، أمور موقوفة الى حدّ بعيد على مدى انتشار الديموقراطية في جواره ومحيطه العربي والاسلامي. وهو، بحكم الضرورة، معني بهذا الشأن، وبهذا الاصلاح الذي يحكى عنه للانظمة العربية الباقية عصية على كل اصلاح. وكلّما إتسعت رقعة الديموقراطية في الشرق، الشرق الاوسطي او الشرق العربي، كان ذلك خيرا على لبنان. فالمثال اللبناني ليس لنفسه فقط بل لمحيطه أيضاً، وبخاصة بعد افتضاح أمر الانظمة التي كانت تعيب عليه تعدّديته بنجاحها المزعوم في الصهر والانصهار في البوتقة القومية الواحدة . وليس أدلّ على ذلك ممّا حدث في العراق بعد سقوط نظام الصهر والانصهار. لقد عادت تعدّدية الشعب العراقي تطفو على السطح بكل تبايناتها الثقافية وتفرض نفسها على الجميع.

ومعنى هذا كلّه ان لبنان لم يكن على خطأ عندما اختار النظام الذي يعترف بهذه التعدّدية ويحترمها، جاعلاً من حرية المعتقد حرية مطلقة لا يحدّها قيد، أي فاصلاً ما بين الدين والدولة من قبيل الاحترام لكل الاديان والمعتقدات لا معادياً لها تحت ستار العلمانية التي يدّعيها بعض الانظمة المجاورة لكنّه يفرض على الناس حقيقته المعروفة.

ومعنى هذا أيضاً أن لبنان مقبل على أن يكون النموذج الذي سيؤخذ به كبديل من الانظمة الاستبدادية السائدة، ولو على مراحل، ولو باشكال مختلفة. ولعلّها الفرصة المناسبة والمنتظرة منذ سنين لاسترداد سيادته واستقلاله، وعودة الدولة الحقيقية، دولةَ الحقِ والمؤسسات .