Back to Lectures

التقريـر السياسـي

2004-01-11

الحركة الاصلاحية الكتائبية المؤتمر العام عين سعــاده، في 11 كانون الثاني 2004

التقريـر السياسـي

عنوان:

ليس مبالغة القول ان التدهور في احوال لبنان السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية بلغ حدّا يهدّد وجود هذا البلد ويقطع الطريق على اي محاولة لانقاذه .
ومردّ الأمر, في صورة رئيسة, الى ما ألقي على عاتق هذا البلد من أثقال في النزاع مع إسرائيل هي بالضرورة لاغية لسيادته واستقلالهذ, مع ما يعني الامر من موانع سياسية وأمنية لقيام دولة حقيقية سيدة على أراضيها , والاستعاضة عن ذلك بمشروع سلطة هي في النهاية تحت الوصاية الخارجية . وبهذا المعنى كانت المساعدة السورية للبنان في السنوات الأخيرة, مساعدة لا بدّ من ان تكون تدخّلاً في شؤونه الامنية والسياسية لكنّها غير مسؤولة عن الشؤون الاخرى من اقتصادية او مالية او إجتماعية. وتلك هي المشكلة الاضافية الناجمة عن هذه الوصاية : فلا لبنان هو مسؤول عن نفسه , في الامن والسياسة كما في الاقتصاد والمال والاجتماع - ولا فصل بين هذا الجانب وذاك في حياة بلد ومجتمع – ولا هو تحت وصاية معلنة ومعترف بها , وبالتالي , مسؤولة عن هذه الشؤون مجتمعة , سواء كان امام اللبنانيين او امام أي هيئة عربية او دولية كما كانت الحال , مثلا , في عهد الانتداب او الوصاية الفرنسية .

الوصاية وأكلافها

ومع ذلك لقد حاول اللبنانيون , مرغمين طبعاً , التأقلم مع هذه الحال , وبشتى الوسائل وراهنوا على مشاريع الاعمار والنهوض الاقتصادي ولم يبخلوا باي ثمن وباي جهد , ولكن من دون طائل. وبدلاً من النهوض والاعمار كان الهبوط والتراجع , والديون بالمليارات , وبطالة وهجرة مخيفة , مع ما يعني هذا كلّه من خلخلة في وجود لبنان السياسي, بل كان ان اصبح لبنان رقما زائدا على الساحة الاقليمية والدولية , بل عبئاً على اهله كما على الدول المانحة.
وفوق هذا كله منع اللبنانيون من ان يتصالحوا , بعد النزاعات التي عصفت بهم, سواء داخل المؤسسات او خارجها . واذا ما قامت مبادرة في هذا الاتجاه سارعت السلطة الى قمعها مثلما كانت الحال مع مصالحة الجبل وبحجة انها مشروع انقلاب . وهكذا ايضاً كان التصرّف حيال التلاقي بين معارضة مسيحية ومعارضة اسلامية وقد كاد ينتج معارضة وطنية واحدة تحدّ من السلطة الرسمية وتحول دون انفلاشها لو لم تبادر هذه السلطة واجهزتها الامنية الى قمعها وهي في المهد .

لقد كان من الطبيعي ان تتعثر هذه السلطة في كل خطواتها وتجاربها , وان يدبّ فيها الفساد , وان تتآكل وتتهافت , كما كل سلطة قائمة على الاحتكار والاستبداد , ولا مفرّ من ذلك.
ولا يغيبنّ عن البال ان لبنان هو منذ ثلاثين عاما ونيفا بلد بلا مؤسسات حقيقية وفي حا ل فوضى أمنية او سياسية او الاثنتين معاً , وبالتحديد منذ ذلك الخطأ التاريخي بتقديم حرية العمل الفلسطيني المسلّح من الاراضي اللبنانية على أمن الدولة وسلامتها . سقطت الدولة ولم تعد.
لقد أوحى الى اللبنانيين ان اتفاق الطائف يضع حدّاً لهذه المغامرة التي تسبّبت في تدمير بلدهم ووطنهم واغراقه في الدم والنار. أمّا من حيث واقع الأمر فقد ظلّ لبنان خط تماس مع اسرائيل مقابل الامساك باوضاعه الامنية والسياسية منعا لانفلاتها وتفجّرها . هكذا حتى السلام الشامل , كما يقال , او حتى تحرير الاراضي العربية المحتلّة كلّها.

المقاومة وأهدافها المتغيّرة

قيل لنا في البداية ان الغاية هي إرغام اسرائيل على الجلاء عن الاراضي اللبنانية إنفاذاً للقرار الدولي 425 بعدما ظلّت اثنين وعشرين عاما تمتنع عن تنفيذه تلقائيا وتتشبث بالبقاء . والمقاومة المسلّحة في هذه الحال لازمة ولا بدّ منها, وخصوصا ان هناك من تطوّع لها ودلّل على كفاءة عالية في ممارستها. ومن من اللبنانيين لا يرحّب بمثل هذه المقاومة ولا يباركها او لا يمحضها التأييد والدعم ؟ وعلى رغم التساؤل حول هوية هذه المقاومة والاسباب التي جعلتها حكراً على حزب الله , فقد التفّ اللبنانيون حولها وقدّموا لها الدعم الذي لا غنى عنه في اي مقاومة, بل كانوا شركاء فيها من خلال الاثمان التي وقعت عليهم , مادياً ومعنوياً, ولم يبخلوا, ولم يتذمّروا. فتحرير الجنوب والبقاع الغربي قضية تهون امامها كل التضحيات .
واحتلّ حزب الله ومقاتلوه مكانة عالية في أعين اللبنانيين .
وكان ما لم يحدث مع أي احتلال اسرائيلي لأرض عربية , ففاجأت اسرائيل الجميع بقرارها الانسحاب من الاراضي اللبنانية . لقد كان ذلك مخالفاً لما درجت عليه في كل فتوحاتها. أمّا كيف كان هذا الانقلاب في المنطق الاسرائيلي فأمر يكشف عنه الارتباك الذي وقع فيه اهل السلطة عندنا لمّا بلغهم عزم اسرائيل على الانسحاب الى الحدود الدولية انسحاباً كاملاً, طبقاً للقرار الدولي 425 . لقد بدا لبنان الرسمي في ذلك الحين كما لو انه يفضّل بقاء الاحتلال على الانسحاب, او كأنه خسر ورقة من اوراقه في هذا الانسحاب. والصحيح ان القرار الاسرائيلي بالانكفاء الى ما وراء الحدود قد كان , طبعاً, تحت وطأة اعمال المقاومة , ولكن ايضا بغية إسقاط شرعية هذه المقاومة وإرغام لبنان على اقفال هذه الجبهة المفتوحة على اسرائيل منذ زمن المقاومة الفلسطينبة او العمل الفدائي الفلسطيني . ولم يكن صعباً على الحكومة الاسرائيلية إقحام الامم المتحدة في هذه العملية لتكون شاهداً عليها وتتولّى بنفسها رسم الخط الازرق كحدّ فاصل بين الجانبين .

وكم كانت فرحة اللبنانيين عظيمة بهذا الانجاز العظيم. وقد قيل صراحة وعلنا في ذلك الحين, وعلى ألسنة بعض المسؤولين, إن حرب لبنان انتهت او هي في حكم المنتهية . لقد بدأت على الحدود , وها هي تحطّ رحالها على الحدود . ولمّا اثيرت مسألة مزارع شبعا , قيل ايضاً, وعلى ذات الالسنة, ان هذه المسألة تعالج بالوسائل الدبلوماسية .
لكن القرار الاستراتيجي او ما يسمّى القرارالاستراتيجي لم يكن من هذا الرأي. والقرار هو ان لا عودة الى اتفاق الهدنة , وان كان اتفاق الطائف يقول ذلك , بل يجب ان يظلّ الاشتباك مع اسرائيل من الحدود اللبنانية قائماً. وبدلاً من إعادة نشر الجيش, جيش الشرعية على الحدود تكون المقاومة هي المنتشرة هناك. وما كان يقال تلميحاً او همساً على هذا الصعيد بات قوله لاحقاً في منتهى الصراحة: ان جبهة الجنوب لم تفتح كي تغلق , والمقاومة ليست فقط مقاومة للاحتلال بل ايضاً وخصوصاً مقاومة لوجود اسرائيل, او على الاقل للخطر الذي يشكله هذا الوجود على لبنان. وهو آخر تفسير يطلقه حزب الله لاستمرار إنتشار مقاتليه على الحدود. ففي كل يوم مطالعة في هذا الشأن, واجتهاد, وتفسير, وتبرير. ولكن من دون ان يسأل اللبنانيون رأيهم في تواصل هذه المغامرة التي بدأت في أواخر الستينات ولم تنته , بعد , وقد لا تنتهي ابداً إذا ما ظلّ التعامل مع هذا البلد على انه ساحة فقط وموقع جغرافي استراتيجي مجاور لاسرائيل .

آن الاوان لوقف هذه المجازفة بلبنان تتوالى فصولها منذ زمن ... او آن الاوان لاعادة النظر في هذه الاستراتيجيا – ان صح اعتبارها استراتيجياً حقيقية – بعدما بلغت تكاليفها على لبنان حدّا لا يطاق , اقتصاديا وماليا واجتماعياً, وسياسياً ايضاً وخصوصاً. إذ ليس بالسلاح فقط تخاض الحروب بل أيضاً بالامكانات الاقتصادية والمالية والمعنوية. أمّا الاستراتيجية فهي تعني حسن توظيف هذه الامكانات في المعركة وادارتها بكفاءة عالية. وإذا صحّ ان مقاومة حزب الله تتمتع بجهوزية عالية , من حيث التسلّح والكفاءة القتالية وروح الاستشهاد, إلاّ ان جهوزية لبنان في المال والاقتصاد وفي شتى جوانب الحياة فتكاد تصبح معدومة . ومن هذه الزاوية على الاقل يصبح المضي في هذه الاستراتيجيا مجازفة بالبلد محفوفة بالمخاطر ان لم تكن تضحية به .

ونرجو من يدلّنا الى ما يثبت العكس , او على الأقل الى ان ثمة أملاً في وقف التدهور المريع في احوال البلاد في ظلّ هذه الاستراتيجيا القائمة فقط على حزب الله وسلاحه ودونما نظر الى سائر مستلزمات اي مقاومة .
ونرجو من يدلّنا ايضا الى الطريقة والوسائل التي يمكن بواسطتها , وفي ظلّ هذه الاستراتيجيا , احياء الدولة الحقيقية, او اصلاح أوضاع الحكم والسلطة , او وقف الفساد والسطو على الاموال العامة , او على الاقل الحدّ من المديونية العامة والعجز في الخزينة.

لا دولة قانون ومؤسسات بلا سيادة

ان لمن الغرابة ان يتكلّم بعض المسؤولين على دولة القانون والمؤسسات مبشرا بها وداعيا الى رفع مداميكها فيما البلد تحت الوصاية. نريد طبعاً ان نصدّق, لكننا لا نعرف كيف تكون دولة قانون ومؤسسات تحت الوصاية . فلم يكن ترفاً ما نصّت عليه وثيقة الوفاق الوطني من هذا القبيل ولا كان تلاعباً بالالفاظ والكلمات. لقد حدّدت الشروط اللازمة والآلية والمداخل والوسائل وقالت صراحة ان " قيام الدولة القادرة " يقتضي اولاً: استعادة السيادة حتى الحدود المعترف بها دولياً " وثانياً " اتخاذ كافة الاجراءات اللازمة لتحرير جميع الاراضي اللبنانية من الاحتلال الاسرائيلي، " وثالثاً " التمسك باتفاقية الهدنة الموقعة في 23 اذار 1949 " ناهيك عن حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها الى الدولة اللبنانية خلال ستة اشهر إضافة الى " إعادة تمركز القوات السورية في منطقة البقاع...الخ" تمهيداً للانسحاب الشامل.

ومعنى هذا كلّه فك الارتباط بين القضية اللبنانية وأزمة الشرق الاوسط وبما يكفل قيام الدولة القوية والقادرة. وهذا هو بيت القصيد كما يقال. وقد جرى التأكيد على ذلك لدى دعوة لبنان الى مؤتمر مدريد العام 1991, فلم يقبل المشاركة في هذا المؤتمر الاّ بشرطين: الاول, هو ان حضور لبنان المؤتمر الدولي يجب ألاّ يعني في أي شكل من الاشكال ربط قضيته بقضية الشرق الاوسط. والثاني هو التأكيد على اتفاق الهدنة عام 1949 والتمسك بجميع مبادئه .

وعلى هذا الاساس ايضاً كان قرار المجلس النيابي باعتبار اتفاق القاهرة عام 1969 لاغياً وكأنه لم يكن تأكيدا لالتزام لبنان اتفاق الهدنة للعام 1949 ريثما يتمّ استبداله بنص آخر وايجاد حلّ شامل للنزاع العربي – الاسرائيلي. فحتى ذلك الحين كان الموقف الوطني اللبناني هذا الموقف . أمّا ما حدث لاحقاً فقد جاء مغايراً ومخالفاً له ولكل المواثيق والقرارات الرسمية. لقد عاد الربط بين قضية لبنان وقضية الشرق الاوسط على نحو لا يخلو من الالتفاف المتواصل على وثيقة الوفاق الوطني وعلى سائر القرارات المتصلة بهذا الشأن .

المقاومـة البديـل

أمّا ولا سبيل لقيام دولة حقيقية في ظلّ هذا النمط من المقاومة للخطر الاسرائيلي, فالواجب يقضي بالبحث عن مقاومة أخرى, مقاومة للتحدّي الاسرائيلي في كل اشكاله , او للخطر الاسرائيلي, او للهيمنة الاسرائيلية, لا فرق, او لكل هذه الاشياء مجتمعة. لكن الامر يتطلّب مناقشة, ويتطلّب حواراً بين اللبنانيين , ويتطلّب خصوصاً قراءة مشتركة لمجرى الصراع العربي – الاسرائيلي , حاضرا ومستقبلاً, وللتحوّلات الاقليمبة والدولية, ولما آلت إليه العمليات السلمية المتتالية . فأمن لبنان متصل اتصالاً وثيقاً بهذه الامور, وكذلك استقلاله الوطني وسيادته, ناهيك عن احواله الاقتصادية والاجتماعية. وهذا ما نعرض له في النقاط الآتية:

أولاً – ان درب السلام الشامل في المنطقة درب شائكة وطويلة. والحقيقة ان هذا ا لسلام اصبح اشبه بالسراب كلّما اقتربنا منه توارى. هكذا منذ مؤتمر مدريد. أمّا الدولة الفلسطينية فدونها عقبات لا ندري اذا كان تذليلها في المستقبل المنظور ممكناً ومستطاعاً, وخصوصاص العقبة المتمثلة في عودة اللاجئين الى ديارهم التي تطرح على انها عودة الى فلسطين كلها وتطرح معها وجود اسرائيل كدولة يهودية لا أي دولة. وفي أي حال, ان أي تسوية في هذا المجال لا تحسم الصراع ولا تقلّل من الخطر الاسرائيلي الدائم والباقي ما بقي العرب في تخلّفهم تخلّفا بدأ منذ قيام دولة اسرائيل, بل منذ ما قبل قيامها. فكل الثورات والانقلابات العربية على واقع الحال تحوّلت الى انظمة استبدادية تحافظ على هذا التخلّف بدلاً من ان تحدّ منه. وليست مصادفة ان تنتهي حروب العرب كلها مع اسرائيل الى هزائم عربية, او في احسن الاحوال الى إتفاقات فك ارتباط بين الجيوش المتحاربة او الى معاهدات سلام تكرّس ما كسبته اسرائيل من مغانم وأراض. ولا هي مصادفة ان ينتهي القرن العشرون , بالنسبة الى العرب , كما بدأ , من هيمنة الى هيمنة, ومن استعمار الى استعمار او من احتلال الى احتلال. فالفراغ في شتى أشكاله هو ما يشرّع الابواب امام الهيمنة الخارجية والاستعمار. ان ظاهرة انتشار العمليات الجهادية او الاستشهادية او الانتحارية انما هي, على عظمتها, علامة يأس من كل الثورات والانقلابات, ومن كل الجيوش والانظمة العربية. وهي في أي حال لا تملأ الفراغ الحاصل على كل الاصعدة السياسية والاقتصادية , ولا تعوّض الشعوب العربية ما دفعته من أثمان , فضلاً عن انها لا تقوم مقام النهضة العربية المرتجاة والتي لا بدّ منها للحدّ من التفوق الاسرائيلي ودفع مخاطره المتعدّدة الاشكال والالوان.

ثانياً – لا يسعنا , حينما نرى كيف يصير التصدّي لاسرائيل وبأي مقدار من التخلّف في الميادين كلها , ألاّ ان نتساءل عن الفائدة من إرغام لبنان على السير في ذات الدروب, أي على استبدال الدولة بنظام أمني , والمؤسسات السياسية بالاجهزة , والانتخاب بالتعيين , وتداول السلطة بالتمديد او التجديد , الى ما هنالك من تغييرات في وجه لبنان وما تميّز به منذ تأسيسه من تعدّدية وحريات وانفتاح على الثقافات والحضارات كانت في اساس ازدهاره الاقتصادي لا الثروات الطبيعية تحت الارض او فوقها .
انه البلد الذي لا يعيش ويحيا إلاّ في الديموقراطية, وأي نظام آ خر يقتله , او على الاقل يزيده فقراً على فقر وعجزاً على عجز مادياً ومعنوياً. فقط عندما كان لبنان مسؤولاً عن نفسه , داخلياً وخارجياً , نما وازدهر. والحقيقة ان لا جدوى من الاعلان عن التمسّك بالاقتصاد الحر ان لم يقترن بتمسّك مماثل بالنظام الجمهوري الديموقراطي البرلماني. إذ لا نهوض اقتصادياً إلاّ مقروناً بنهوض سياسي يبدأ باستعادة لبنان سيادته, أي مسؤوليته عن نفسه, سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وعلى هذا النحو يكون لبنان المقاوم حقاً وتكون مقاومته للتحدّي الاسرائيلي مقاومة ثابتة وناجعة .

أمّا الطريق الى ذلك فهي التي تمرّ بالانتخابات العامة وكل انتخابات , نيابية كانت او بلدية محلية او رئاسية , ولا طريق سواها. وليس وارداً سلوك دروب أخرى في اي حال من الاحوال, لا بالثورة ولا بالانقلاب ولا بما يماثلهما, ليس فقط لانها دروب متعذرة في بلد مثل لبنان , بل ايضاً لأنها تؤدّي كلها الى التسلّط والديكتاتورية. وغني عن القول ان العبث بالقاعدة الذهبية , قاعدة تبادل السلطة , يؤدّي الى ذات الاستبداد . ويدخل في هذا الاطار ما يوصف بالتمديد او التجديد , على اي مستوى كان . وقد آن لنا ان نحذف هذه العبارة من ادبياتنا السياسية في صورة نهائية . أمّا التذرّع بالظروف , القاهرة او الاستثنائية , فحجة ساقطة , لان هذه الظروف تدوم منذ ثلاثة عقود ونيف , وقد تستمرّ عقوداً أخرى فيما التغلّب عليها او التعايش معها يكون باسترداد هذا الجانب المهم من السيادة , وهو ان نختار حكامنا بانفسنا , وان نحاسبهم , ديموقراطياً, أي بالانتخاب أيضاً لا بالانقلاب .

أمّا قانون الانتخاب فوسيلة قد لا يكون حولها خلاف متى كانت الغاية منه هذه الغاية . وكما كانت الغاية من قبل انتاج طبقة سياسية متنازلة سلفا عن القرارات المتصلة بالقضايا الكبرى فمن المستطاع ايضاً انتاج طبقة اخرى قادرة على الارتفاع الى مستوى هذه القضايا والقرارات, او على الاقل على تحقيق المصالحة الوطنية التي لم تتمّ بعد والمشاركة في هذه المسؤولية.

العلاقات اللبنانية - السورية

ثالثاً – كل هذه الامور متصلة اتصالاً وثيقاً بموضوع العلاقات اللبنانية – السورية التي ليست علاقة بين دولتين , ولا هي مميزة , ولا هي نموذجية أبداً . كما ليس صحيحاً ان المسألة مسألة خلل في هذه العلاقات , كما يقال , لا يحتاج إلاّ الى بعض التصويب او التصحيح . إنها اكثر من خلل او تعثر او انحراف . وليسمح لنا , هنا , ان نسمّي الاشياء باسمائها من دون احكام مسبقة هي في الوقت عينه مغرضة . ان واقع الحال يشهد على ان العلاقة بين البلدين هي علاقة وصي بموصى عليه , في الاقوال والافعال وفي الممارسات اليومية على انواعها , فضلاً عن ان المجتمع الدولي كلّه يتعامل مع بلدنا على هذا الاساس .

والمؤسف الاّ تكون العلاقات اللبنانية السورية كما يرتجى لها ان تكون , وبخاصة بعدما بدأ الفساد يخترقها , منه ما هو لبناني , ومنه ما هو سوري , هذا يلطو بذاك او هذا يحمي ذاك في تواطؤ اصبح مكشوفاً ومعروفاً والغنائم المشتركة بالملايين والمليارات .
وفي أي حال , ليس معقولا , بعد مضي ثلاث عشرة سنة ونيف , ان يكون اختيار حكامنا , مثلا , لا يزال شأناً سورياً لا لبنانياً, من أعلى الهرم الى وسطه الى أسفله.

والمطلوب في نهاية الامر ليس انقلاباً على انقلاب , بل رجوع عن انقلاب, عن نهج الاقصاء والنفي والسجن والابعاد, وصولاً الى المصالحة الشاملة والى ما تقتضيه التحوّلات الاقليمية من تحاور بين المجموعات اللبنانية كلها حول المقاومة الفضلى لما يتهدّد لبنان وسوريا من أخطار. أمّا المكان الصالح للحوار وهذه المشاركة, فهو داخل المؤسسات, في مجلس النواب, وفي مجلس الوزراء الذي لم يتعامل, بعد, مع نفسه على انه هو القيادة السياسية للبلد لا سواه, وفيه تتقرّر السياسة الخارجية والدفاعية لا في سواه. وهذا كلّه وصولاً الى حوار لبناني- سوري بين حكومتين ودولتين, وبالتالي, الى استراتيجية مشتركة او موحّدة تضمن أمن البلدين معاً ولا تميّز بينهما، وبخاصة في زمن العولمة وما تقتضيه من تنسيق وتعاون في شتى الميادين.
ولعلّنا في ما نقوله ونعلنه لا نجافي حقيقة مشاعر السواد الاعظم من اللبنانيين , ولا نفتئت على ارادتهم . فكلّهم يصرخون ألماً, وكلّهم لا يأملون خيراً أو خلاصاً على يد سلطة هي نفسها لا تنتج إلاّ الجور عليهم والظلامة , وهم كلّهم ينشدون ذهابها واسترداد حقهم في اختيار البديل , او كلّهم يريدون استعادة هذا القدر من السيادة يضع حدّا لوصاية اصبحت مانعة للنهوض باحوالهم المتردّية, بغض النظر عن النية والقصد .

واذا كنّا لا ندّعي التكلّم باسمهم جميعاً , فاننا , على الأقل , نتكلّم باسم الكتائبيين في الوطن ودنيا الاغتراب. فالمناسبة مناسبتهم, وهذا المؤتمر مؤتمرهم, ولهم علينا حق الجهر بما في نفوسهم من قلق على لبنان لا يجدون له أي صدى في بيت الكتائب بعد مصادرته. كما لهم علينا واجب التعبير عن استنكارهم لما أدخل على الفكر الكتائبي من اجتهادات شخصية تجعل من المدرسة الوطنية التي أسّسها بيار الجميل تركة في خدمة الوصاية والسلطة المنبثقة عن ارادتها لا في خدمة لبنان. وهذا كلّه تحت غطاء الدفاع عن الوجود المسيحي اللبناني, او عن الرئاسة والجيش والقضاء , او عن حقوق المسيحيين هنا او هنالك من المواقع والوظائف العامة .

ومن المؤسف ان يساء استعمال اقوال بيار الجميل بهذا المقدار وان تحمّل من المعاني ما يناقضها. وبدلاً من ان يظلّ بيت الكتائب , كما كان من قبل , عنوان التمرّد على كل حماية او وصاية, غربية كانت او شرقية, أصبح عنواناً من عناوين تلك الثقافة السياسية الموروثة عن زمن الذمّية والتي أعيد انتاجها والترويج لها في هذا الزمن الرديء تأسيساً على الشعور بالهزيمة او بالخوف او بالاثنين معاً. فقيل, مثلاً, ان المطالبة بالسيادة والاستقلال هو تحدّ واستفزاز, او ان انتصار المعارضة في انتخابات المتن الفرعية ليس انتصارا بقدر ما هو نذير هزيمة للمسيحيين مؤكّدة. ولهذه الامور وغيرها مما يماثلها علاقة وثيقة بنظرة الكتائب الى الحضور المسيحي في لبنان, كما بمعنى وجود لبنان السيد المستقل. وهذا ما يتطلّب توضيحاً له وتصحيحاً , كما يتطلّب تأكيداً على ثوابت من دونها تصبح الكتائب رقما زائداً فيما بيت الكتائب, كما هي حاله الآن, أي ملتقى لاحزاب وجمعيات متعدّدة الجنسيات والهويات باستثناء حزب الكتائب :

أولاً – الوجود المسيحي في لبنان يكون حرّاً او لا يكون له معنى او فائدة . وهذا ما كان يعنيه الرئيس – المؤسس بكلامه على الفارق الذي يتميز به لبنان على هذا الصعيد وحيث حرية الضمير او حرية المعتقد تقوم مكان التسامح الذي, رغم أهميته, يظلّ مشروع تقييد لهذه الحرية ولسواها من الحريات. فالتسامح يعني ان هناك سلطة ما, او مرجعية ما, تقرّر هذا التسامح وتعيّن له مداه وحدوده, فتتسامح في أشياء ولا تتسامح في أشياء أخرى, كما قد تتراجع عن هذا التسامح كما حدث ويحدث في دول وأنظمة عديدة, في الامس واليوم وفي حين .
وغني عن القول ان لا وجود مسيحياً حرّاً في ظلّ الحماية او الوصاية. وهذا ما قضى بتأسيس الكتائب وبوقوفها في وجه الانتداب الفرنسي وبخوض مغامرة الاستقلال. وبين الحماية الفرنسية للوجود المسيحي والاستقلال, مروراً بالوفاق المسيحي – الاسلامي, اختارت الاستقلال الكامل الناجز ولم تتراجع .

ثانياً – لا يكفي ان يكون هناك مسيحيون في الحكم والسلطة كي تستوي الامور على هذا الصعيد وتستقيم, كما لا يكفي ان تكون حقوق المسيحيين محفوظة في الوظائف والمناصب العامة او كان لهم ما يفيض عن هذه الحصص والحقوق وكانوا هم الاسياد في هذا البلد اذا كان الثمن والمقابل وصاية عليهم او على البلد وقمعا للحريات ومساسا بحرية الضمير او ... الاستعاضة عن هذه الحرية بالتسامح. ان لمن التبسيط المبالغ فيه, والذي يقارب الانتهازية, القول ان الكتائب قد عادت الى السلطة بعد اقصاء, او ان هذه العودة هي باكورة عودة المسيحيين الى الحكم والسلطة على نحو أعم وأشمل , وبخاصة متى كانت هذه العودة هي للتغطية على واقع الحال او للتستير على مثالبه وعيوبه .

ثالثاً – الوجود المسيحي الحرّ يفترض وجوداً إسلامياً حرّاً أيضاً . فلبنان التعدّدي هو الضمانة لهذا الوجود وذاك. والخوف إنما على هذه التعدّدية أكثر مما هو على المسيحيين الذين لا معنى لوجودهم في هذا الوطن إذا لم يكونوا شهوداً لهذه التعدّدية الثقافية والحضارية. أمّا التساهل في هذا المجال فهو انهزامية وربما مدرجة الى التطرّف بأعلى درجاته. وقد علّمنا التاريخ ان المتساهلين والانهزاميين, تحت ستار الاعتدال, هم, عادة, الاكثر قابلية للوقوع في التطرّف متى سنحت لهم الفرصة وكانت لهم السلطة والقدرة على الغلبة .

ولادة جديدة للكتائب

تلك هي تعاليم بيار الجميل في الصيغة اللبنانية , بل هذه هي مرتكزات الفكر السياسي الكتائبي. وما عداه ليس من الكتائب في شيء ولا هو من غاية وجودها, ولا هو طبعاً الغاية من وجود لبنان, البلد الذي, مهما جار عليه الزمن, فسيظلّ البلد الذي لا غنى عنه في هذه المنطقة, لا كغاية في حدّ ذاتها, بل كمثال يجدر تعميمه, وبخاصة في هذا الزمن المليء بالتحدّيات للانظمة العربية كافة, وللمشروع الاسرائيلي في آن واحد . وهذا ما نبغي التأكيد عليه. اذ ليست مصادفة ان يتمكن لبنان من تجاوز محن عديدة على مدى تاريخه الطويل والعريق. ولا هي مصادفة ان يخرج سليماً من حربين عالميتين اثنتين سقطت فيهما دول كبرى وامبراطوريات, في الشرق والغرب وفي كل مكان, ناهيك عن تخطّيه للحرب التي قيل عنها انها حرب لبنان فيما هي, في الحقيقة, حرب إقليمية ودولية لا تزال تدور رحاها حتى هذه الساعة, ولو على أطرافه وفي جواره .

وعندي ان الكتائب تحتاج الى ما يشبه الولادة الجديدة , الى مثل ما عرفته احزاب عديدة في بعض الديموقراطيات المتقدّمة, فوهنت, او شاخت, او عصفت فيها الرياح, او تعسكرت لضرورة حرب ومقاومة احتلال, فتكاثرت فيها مراكز القوى الموروثة عن زمن الحرب والمقاومة, فضّيعت نفسها. لكن الروح باقية وباق معها الشعور بالحاجة الى العودة الى الاصول والبناء عليها بناء جديدا اكثر مرونة, مثلا, او أكثر انطباقاً على مقتضيات العصر .

والكتائب , أساساً , حركة وطنية أكثر مما هي حزب سياسي يهدف الى الحكم والسلطة ويتوق اليهما. وبهذا المعنى ادعو الى هذه الولادة الجديدة, او الى ما يصح وصفه بورشة اعمار تتسع للجميع وتتطلّب مشاركة الجميع من دون استثناء, لكنّها تتطلّب ايضا تحضيراً متأنياً لها في مشروع متكامل الفصول والمراحل التي تقتضيها مثل هذه الخطوة التاريخية.

وكما في الامس كذلك اليوم , المسألة مسألة انتقال صعب من تحت الوصاية الى الاستقلال .
والزمن باق زمن الكتائب , او زمن الفكر السياسي الذي قام عليه لبنان وصنع الاستقلال.