Back to Lectures

لحاجة إلى الشراكة: الولايات المتحدة والشرق الأوسط في زمن جديد

2003-07-07

الحاجة إلى الشراكة:
الولايات المتحدة والشرق الأوسط في زمن جديد

أمين الجميل
رئيس الجمهورية اللبنانية، 1982-1988

كلمة ألقاها في
معهـد كنيـدي للحكـم
جامعـة هارفـارد

7 تموز/يوليو 2003

إنه لمن دواعي سروري أن أعود الى هارفارد بين الفينة والأخرى، فألتقي أصدقاء أعزاء، وأتعرّف الى زملاء جدد. كما هو شرف عظيم لي أن أقف اليوم على هذا المنبر من معهد كنيدي العظيم، هذه المؤسسة العريقة من مؤسسات البحث والعلم والنقاش الرائدة في هذا العالم. ففي زمن
العولمة، وفي وقت باتت تدخل الديبلوماسية الأميركية في شؤون العالم كلّه أمراً واقعاً، تصبح الحاجة ملحّة الى منتديات مثل هذا المنتدى تساعد في تحديد السياسة الأميركية وشرحها.
ويطيب لي، اليوم، التوجّه الى هذا الحضور الكريم مناشداً إياه مشاركتي تصوراً لدور الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، أراه في منتهى الأهمية.
وليس مبالغة القول أن نجاح السياسات الأميركية أو فشلها في الشرق الأوسط أمر كفيل بتحديد مصير هذه المنطقة برمتها، وله التأثير البالغ في إمكانات تحقيق السلام الشامل فيه. وإذا ما رغبت الأسرة الدولية في تخطّي العنف والصراع القائم، ومحاربة الإرهاب، فلا بدّ من الوقوف على المخاطر المحدقة بهذه المنطقة. وفي إعتقادي أن إدارة الرئيس بوش مدركة لهذا الواقع من شتى جوانبه.
فبالتدخل في العراق، وبإسقاط النظام العراقي، تكون الولايات المتحدة الأميركية قد افتتحت حقبة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية والسياسة الإقليمية. وتكون أيضاً قد أخذت على نفسها مسؤولية معنوية وسياسية وذات أبعاد استراتيجية، في تحسين الظروف السائدة في العراق كما في مجمل دول هذه المنطقة من العالم.
لقد اخترت لمداخلتي عنوان "الحاجة الى الشراكة" انطلاقاً من قناعة عندي بأن هذه الشراكة تصلح أساساً لتنظيم العلاقات الفضلى بين الولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط. وهي لا تعني، طبعاً، العلاقات الاستراتيجية والاقتصادية القائمة حالاً بين الجانبين، وهي بلا ريب، ذات أهمية بالغة، بل أيضاً وفي صورة خاصة، الشراكة في فض النزاعات وتوطيد السلام وتعميم الديموقراطية والحوار بين الثقافات، ناهيك عن المصالحة القائمة على القيم الدينية والروحية.
واسمحوا لي أن أبدي بعض الملاحظات حول طبيعة هذه الثورة الدبلوماسية التي أحدثتها الولايات المتحدة بتدخلها في العراق وقد تجلّت على صعيدين، إقليمي ودولي.
فعلى الصعيد العالمي، وغداة حرب العراق الأخيرة، دخل المجتمع الدولي نهائياً في زمن جديد يتميّز بما يعرف ب "الردع المسبق"، حيث التعامل مع المخاطر يتمّ باللجؤ الى العمل العسكري أكثر منه الى الدبلوماسية. وإذا صحّ أن هذا التعامل ليس جديداً، إلا أن الجديد هو إقدام القوة العظمى الوحيدة في عصرنا على الارتقاء به الى مستوى العقيدة الرسمية. وهذا ما نصّت عليه، صراحة، استراتيجية الأمن القومي للعام 2002 التي قدّمها الرئيس الأميركي جورج بوش، وتمّ تطبيقها في العراق، وعلى مرأى من العالم كله، نموذجاً ومثالاً.
إن الدخول في تحليل معمّق لهذا المفهوم الجديد للسياسة الدولية يتجاوز نطاق مداخلتي ولإطارها. وما أودّ التركيز عليه هنا هو اشتداد الحاجة الى حوار شامل حول هذا الشأن على مستوى الأسرة الدولية، وحول الظروف التي تجيز اللجؤ الى هذا الأسلوب من التعامل مع المخاطر وكيفية ممارسته. وينبغي أن يبدأ الحوار الآن وقبل أن يفاجأ العالم بأزمة أخرى مماثلة للأزمة العراقية. فبالنظر الى الخطر المزدوج المتمثّل في الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، لقد بات الردع المسبق بالقوة العسكرية إحدى السمات التي ستطبع العلاقات الدولية في القرن الواحد والعشرين. لا مجرّد نزوة عابرة لدى إدارة أميركية معيّنة. فإن لم تتعامل منظمة الأمم المتحدة مع الأمر وآثاره تعاملاً واقعياً، أصبحت مجرّد طرف ثانوي على هامش السياسة العليا، تماماً كما كانت الحال أثناء الحرب الباردة.
أما على الصعيد الإقليمي، فقد ولّد التدخل في العراق ثورة دبلوماسية بالمعنى الصحيح، ليس فقط لأنها المرة الأولى التي تلجأ فيها الولايات المتحدة الى التدخل العسكري المباشر، فتحتل البلد العراقي برمّته، وتطيح النظام القائم فيه، بل أيضاً لأنها أصبحت قوة شرق أوسطية لا فقط دولة عظمى ذات مصالح حيوية في الشرق الأوسط. وعندي أن الفرص أو المخاطر الناجمة عن التدخل الأميركي في العراق تشبه، الى حد بعيد، تلك المنبثقة عن الطريقة التي تعاملت بها الولايات المتحدة مع البلدان الأوروبية في القرن الماضي. إذ عندما أعلنت أميركا الحرب على المانيا في العام 1917، ورمت من وراء ذلك الى إقامة نظام عالمي جديد قوامه الديموقراطية والأسواق الحرة والسلام الشامل، قال الرئيس الفرنسي جورج كليمنصو يومذاك أن الرئيس ودرو ويلسون يطلق "ثورة" ن شأنها "إنعاش الحضارة الإنسانية". إلا إن ما حدث، ولسؤ الحظ، هو أنه بعدما ساعدت الولايات المتحدة أوروبا الانتصار على المانيا، عادت وانسحبت في صورة مفاجئة من كل ما له علاقة بالشؤون السياسية والعسكرية في القارة الأوروبية. فراحت أوروبا تتخبّط في مشاكلها وتحاول عبثاً تخطّي نزاعاتها الأيديولوجية وأزماتها الاقتصادية المتفاقمة، الأمر الذي أغرقها، بعد عشرين عاماً، في نزاع دام أكثر ضراوة. وإذا بالولايات المتحدة تعود الى التدخل مرة ثانية في الحرب الكونية الثانية ولكن على نحو مختلف، فتثبت حضورها على القارة الأوروبية من خلال ما عرف ب "عقيدة ترومان" و "مشروع مارشال"، متوخية قيام نظام أوروبي جديد أدّى الى نشؤ الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر أحد أهم الإنجازات التي شهدها تاريخ الدبلوماسية حتى هذه الساعة.
فمن حق شعوب الشرق الأوسط، والحالة هذه، أن تتساءل حول طبيعة التدخل الأميركي في هذه المنطقة وأغراضه، وهل سيليه الانسحاب والفوضى أم سيكون واسطة الى قيام نظام إقليمي جديد أفضل من الذي سبقه وأكثر استقراراً، أو الى أين هذه الهيمنة الأميركية على الشرق الأوسط بعد الانتصار الساحق في أفغانستان يليه مباشرة الانتصار الآخر على النظام البعثي في العراق؟
أسمح لنفسي، في هذا المجال، بالإعراب عن بعض التأملات من وجهة نظر عربية بحتة.
لا شك، أولاً، في أن سياسة الولايات المتحدة، القائمة على القوة، هي العامل المسيطر الآن في الشرق الأوسط وفي العالم أجمع. وفي استطاعة الدولة العظمى، بعد تحكمها بمصير العراق، أن تنفذ أي سياسة تراها مناسبة. كأن تقرر، مثلاً، اعتبار القضاء على الإرهاب والتخلّص من أسلحة الدمار الشامل هما الغاية فقط، حتى إذا تم لها ذلك اعتبرت نفسها منتصرة بمقاييسها وحدها. وهي، بلا ريب، قادرة على ذلك.
ولكنني أعتقد أنه رغم السلطة الساحقة التي تتمتع بها الولايات المتحدة من هذا القبيل، يظل العرب، والعرب وحدهم، هم أصحاب الشأن في اعتبار التدخل الأميركي في الشرق الأوسط ناجحاً أو فاشلاً. وتحديد النجاح أو الفشل، من منظار العرب، أمر بسيط للغاية: هل تسعى أميركا الى احتلال فقط أم الى شراكة. والجواب عن هذا السؤال هو الذي يحدّد شرعية الدور الأميركي في المنطقة أو عدم شرعيته. فإذا رأى العرب، مثلاً، أن الدور دور إحتلال كانت ردة فعلهم، بالتأكيد، مقاومة تتخذ في بعض الأحيان أشكالاً عنيفة وغاية في التطرّف. ويعلّمنا التاريخ أن المقاومة تتغذّى دائماً من عاملين" العامل القومي، والعامل الديني.
وعندي، إن على الأميركيين أن يدركوا، لدى التفكير في الشرق الأوسط وشؤونه، هذه الحقيقة الصعبة" إن قلّة قليلة فقط تتحمّل السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة، فيما البعض يعارضها، أما الجميع فينظر إليها مشككاً دائماً ومرتاباً. والصحيح أن العديد من سكان العالم العربي، مسؤولين حكوميين كانوا أو مفكرين أو صحافيين أو مواطنين عاديين، هم مقتنعون بأن أميركا تريد فقط الاحتلال والهيمنة خدمة لمصالحها الذاتية. ومع ذلك، ورغم ذلك، أرى أن الولايات المتحدة هي أمام فرصة حقيقية تخوّلها إقامة منطقة شرق أوسطية جديدة، شرطها الأساسي، كما أشرت في بداية مداخلتي، الإعلان عن إرادة صادقة في الوصول الى شراكة حقيقية مع الشعوب العربية. فيتعيّن على الإدارة الأميركية أن تقنع العرب، بالأقوال والأفعال معاً، بأنها لا تبغي الهيمنة أو الاحتلال، بل مساعدتهم على اعتماد حلول خاصة بهم للنهوض بمجتمعاتهم. وغني عن القول أن الحكم على نوايا الإدارة الأميركية ومقاصدها يتم الآن من خلال التطورات الحاصلة في العراق، وفي فلسطين. إن مصداقية الولايات المتحدة كقوة من نوع جديد تنادي بالديموقراطية وتنشدها للجميع، موقوفة على أمرين: الأول، قيام عراق جديد، مستقر وديموقراطي، والثاني، إيجاد حل للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني يعتبره العرب مسؤولية أميركية في الدرجة الأولى.

تبدأ الشراكة الجديدة بين أميركا والعرب بإشراك هؤلاء في إعادة بناء العراق مشاركة فعلية ومرئية. أما الشؤون الداخلية العراقية فتستدعي مجلساً تمثيلياً يختاره العراقيون، ويكون ناطقاً باسمهم طيلة الفترة التي تسبق انتخاب حكومة جديدة.

فضلاً عن ذلك، ينبغي نشر قوات حفظ سلام عربية في البلاد، بغية إحلال الأمن والاستقرار، وقد أعربت حكومات عربية عديدة عن استعدادها لتقديم بعض وحداتها لهذا الغرض، ولكن تحت مظلّة الأمم المتحدة.
بعبارات أخرى، ينبغي استحداث صيغ مبتكرة تجيز وجوداً عربياً على أرض العراق. وإلا واجه العالم العربي صعوبة كبيرة في فهم الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة تحشد قوات بولونية في العراق، وترفض قوات عربية حليفة مثل القوات الأردنية والمصرية.

لا بد من أن يدرك الأميركيون أن مجمل التجارب التي مرّ بها العرب في القرن العشرين تلخصت بالهزيمة والإذلال. واليوم، ينبغي استبدال وعود التطرف الكاذبة التي أدّت الى نسف استقرار الشرق الأوسط والعالم، برؤية بديلة تعد بالنجاح والولادة الجديدة.

وفي اختصار وإذا لم تقدّم الولايات المتحدة رؤية راسخة في مصطلحات الشراكة، مترجمة بتقدم ملموس للمجتمعات العربية، لن يحصد التدخل في الشرق الأوسط إلا التطرف والإرهاب.

وغني عن القول أن لا خير يرجى من أي محاولة لإصلاح أو تطوير أوضاع الشرق الأوسط إذا لم تقرر الشعوب العربية نفسها سلوك هذه الدروب، بل يتعيّن على العرب كما على الولايات المتحدة وأوروبا أيضاً تأمين الكوادر اللازمة لمثل هذا التعاون المستديم... فوحدها شراكة من هذا الطراز تحقق الخطط والسياسات المبتكرة اللازمة لهذا الغرض.
وفي معرض التفكير في مستلزمات الشراكة الجديدة المرتجاة، تبرز الحاجة الى وعي كامل من قبل الأطراف المعنية لديناميكية الصراع الثقافي الذي يستبد، اليوم، بالعالم العربي. فهو أشبه بمبارزة بين قوى التقليد وقوى التجدد والحداثة تؤثر، سلباً، في الإصلاح السياسي كما في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وعلى الجانب الأميركي الناشط الآن في المنطقة أن يستحدث وسائل توفيق بين التقليد والحداثة أو بين الحداثة وحساسيات شعوب هذه المنطقة، الخاصة والفريدة.
هذا من دون أن ننسى موضوع العولمة وما تطرحه من تحديات، كما في كل البلدان والمناطق النامية. فمن مستلزمات هذه العولمة تأهيل المجتمع لها قبل تأهيل الدولة. لكن نقل القوة والموارد وعملية صنع القرار من الدولة الى المجتمع أمر يهدّد الحكومات القائمة، منذ تكوينها، على وسائل حكم مركزي جامدة لا تتغيّر. وفوق ذلك، إن ما تجنيه بلدان موحدة ومستقرة نوعاً ما، مثل أميركا الشمالية وأوروبا، من منافع العولمة، لا تعرفه أبداً المجتمعات المشتتة سياسياً واقتصادياً، كما هي الحال في الشرق الأوسط، بل ترى، الى نفسها على أنها الضحية لهذه العولمة على كل المستويات.

وعلى بلدان الشرق الأوسط أن تتعلم كيفية ممارسة التنوع الذي كانت تتقنه في السابق، لبلوغ الوحدة والتوجيه. فالتوحيد عملية تبدأ في عالم الأفكار والفكر، وبخاصة في عالم التربية ووسائل الإعلام. وأميركا، أحد أكثر مجتمعات العالم تنوعاً، قد تقدّم للعالم العربي خبرات عديدة حول كيفية الاتحاد في التنوع.

ولا بدّ للمنطقة من أن تتكيف وتواكب التيار العالمي في اتجاه الديموقراطية. وبالاستناد إلى تجربة الاتحاد الأوروبي، إن الديموقراطية الليبرالية هي شكل الحكم الأوحد الكفيل بضمان التعددية واحترام الأقليات الدينية والإثنية.

ولا يتوقعن أحد أن تعتمد المجتمعات العربية، على الفور، الممارسات الديموقراطية الغربية بكليتها. لكنّه صحيح أيضاً أن العالم العربي ما زال أمامه الكثير من العِبَر ليستقيها من التقاليد الديموقراطية الغربية. ففيما تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز الديموقراطية في الشرق الأوسط، داخل العراق وخارجه، عليها أن تتحلى بالمرونة والقدرة على التكيّف وترفض النماذج المقولبة والمحددة تحديداً ضيقاً.

قلت للتو إن نجاح الشراكة الجديدة يستدعي مشاركة عربية كاملة وحقيقية. إن هناك العديد من العرب الذين يتولون مناصب ريادية في السياسة كما في التجارة والتربية، هم على استعداد للمساهمة في أي إصلاح حقيقي. وقد سبق لأمثالهم في زمن مضى أن كانوا رواداً للحداثة في مجتمعاتهم، لمنهم تعرّضوا لشتى أشكال القمع والإضطهاد على أيدي حكامهم، وبدعم ضمني من الحكومات الغربية نفسها وفي طليعتهم الحكومة الأميركية. أما اليوم، ففي استطاعة الولايات المتحدة تصحيح هذا الخطأ بل الرجوع عنه، في المساعدة على إحلال زمن جديد على هذا الصعيد، بالدفاع دفاعاً حقيقياً عن الجماعات الموالية للديموقراطية، وإن كانت هذه الجماعات تعارض الأنظمة الضيقة التي لا تزال تدّعي التحالف مع أميركا وتحتمي بها.

فبدعمها لقوى الديموقراطية في الشرق الأوسط، تكون الولايات المتحدة قد قدمت جواباً عن السؤال الحيوي حول إمكانات ازدهار الديموقراطية في بيئة إسلامية. وأعتقد، شخصياً، أن الجواب عن هذا السؤال يأتي بالإيجاب. فما من تضارب ملازم أو ضمني بين الإسلام والديموقراطية. فلدى تأسيس الدولة التركية الحديثة، تم الفصل بين الدين والدولة من ضمن عملية التحديث التي جرت في ذلك الحين، من دون أن يعني الأمر أن تركيا تخلّت عن طابعها الإسلامي. وها هي تركيا اليوم تتقدم بخطى حثيثة نحو أوروبا، بل نحو الاتحاد فيها، وفي الظاهرة ما يدلّ أن الإسلام لا يقف حائلاً دون اللحاق بركب الديموقراطية والحداثة. كما إن الانتخابات التركية الأخيرة التي جاءت بحكومة ذات ميول إسلامية ظاهرة وواضحة ومعلنة، لم تؤثر على التحالف التركي – الأميركي ولا كانت عائقاً دون طموح تركيا الى الانضمام الكامل إلى الاتحاد الأوروبي.

وعلى الذين ينادون بالنظرية القائلة إن الديموقراطية والإسلام لا يلتقيان، أن يبرروا ما يحدث الآن في إيران حيث الأجيال الجديدة الناشئة تطالب بالمزيد من الحرية والإصلاح الديمقراطي. فالمتظاهرون في شوارع طهران لا يتنكّرون لإسلامهم بل إنهم يطالبون بحقهم في إدارة شؤونهم، بما في ذلك دور الدين في حياتهم.

وثمة تيارات ديموقراطية مماثلة في العالم العربي، في الكويت كما في الأردن والمغرب، ناهيك عما في لبنان من خطوات متقدمة على هذا الصعيد وفي سوريا أيضاً وإن كان ذلك مع بعض الحذر والكثير من التريّث. وقد تكون الضغوط الأميركية على الأنظمة التي لا تزال تتردد وتتحفّظ على سلوك درب الديموقراطية ذات مردود حاسم على هذا الصعيد.

ربما كان الشرط الأساسي لقيام شراكة جديدة يتمثل بتحقيق تقدم فعلي في عملية السلام بين العرب وإسرائيل. فالنزاع القائم بين إسرائيل وجيرانها العرب قوض الاستقرار في الشرق الأوسط لما يزيد عن نصف قرن. ولا يزال هذا النزاع قادراً على نسف الاستقرار، حتى لو كان مركّزاً في الوقت الراهن على آخر جبهة حامية، أي النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.

فعلى الصعيد العربي، استنفذ النزاع موارد عديدة وسمح للحكومات صرف الانتباه عن ضرورة الإصلاحات الداخلية، بما في ذلك توطيد الديموقراطية. فالنزاع المستمر يلهي المجتمعات العربية عن إحداث التغيير، مما تسبّب بموجات استياء شعبي ضد إسرائيل وحاميتها النافذة الولايات المتحدة. وقد ساهم النزاع العربي الإسرائيلي في تغذية وتأجيج التطرف والإرهاب في المنطقة، وهي ظاهرة باتت عالمية اليوم.

وجميع الدلائل تبين أن طبيعة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المُخِلّة بالاستقرار ستزداد حدة إن لم يتوقف النزاع. وقد ورد في تقرير نشره في السنة الماضية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تلخيص لآثار النزاع الجانبية بهذه العبارات:

إن الاحتلال [احتلال الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل]، بتجسيده لخطر ملموس ومستمر، يولد آثاراً جانبية مضرة: فهو يقدّم سبباً وعذراً لتقويض سياسات التنمية وتعديل الأولويات الوطنية وتأخير التنمية السياسية. وفي بعض الظروف، يُستخدم لتوحيد الرأي العام ضد معتدٍ خارجي ويبرر معارضة مقوضة في حين يتطلب التحول الديمقراطي تعددية أكبر في المجتمع، ونقاشاً عاماً بشأن سياسات التنمية الوطنية. وبكل هذه الوسائل، ينجح الاحتلال في تجميد النمو والازدهار والحرية في العالم العربي.

فلا يجوز تصوّر أي تطور سلمي للشرق الأوسط بمشاركة الولايات المتحدة من دون حل عادل ودائم للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. لذا، يتعين على الولايات المتحدة التوسط من أجل التوصل إلى اتفاق بين الفرقاء يضع حداً نهائياً لسلسلة الحروب العربية الإسرائيلية. ففيما يمكن، بل يتعين على الولايات المتحدة صياغة رؤيتها للشراكة الجديدة مع الشرق الأوسط، تبقى فرص النجاح رهناً بإحقاق السلام في الأرض المقدسة.

* * *

لقد أطلت الحديث عن الحاجة إلى شراكة بين العالم العربي والعالم الغربي. ولكن، بصفتي رئيس دولة سابق، أشعر بأنني مهملٌ بعض الشيء إن لم أكرّس بعض الوقت للحديث عن مساهمة لبنان المحتملة في شرق أوسط جديد.

فأنا أرغب في الحديث عن لبنان ليس فقط لأنه بلدي الحبيب ولأنني تشرفت بخدمته رئيساً للجمهورية من العالم 1982 لغاية العام 1988، ولكن أيضاً لسببين أكثر أهمية.

أولاً، عرف لبنان تاريخاً طويلاً من السلم والديموقراطية والانفتاح. فإذا أُريد لهذه القيم أن تعمّ الشرق الأوسط، لا بد من إرجاعها إلى لبنان، كي يعود قدوة يُحتذى بها حول كيفية ازدهار هذه القيم في منطقة مضطربة. وبالطبع، نحن لا ننسى أن المجتمع اللبناني استنزفته أحياناً صراعات أهلية ودينية عنيفة، لكن هذه الصراعات نتجت في غالبيتها عن التدخل الخارجي المباشر.

ثانياً، لبنان هو بمثابة اختبار صعب بالنسبة للشرق الأوسط، تتفاعل فيه بشدة مختلف المعتقدات السياسية والتعاليم الدينية والتيارات الثقافية. بالتالي، إن أي سلام شامل ودائم في الشرق الأوسط يجدر به أن يضمن سلاماً حقيقياً للبنان، سلام عادل يرجع إلى لبنان سيادته وسلامة أراضيه وفرادته.
هذه المبادئ الثلاثة، سيادة لبنان وسلامة أراضيه، وفرادة نظامه السياسي، هي من ضرورات الحفاظ على علاقات وطيدة بين البلدين، لبنان وسوريا. لذلك، يتعيّن على سوريا أن تسحب جيشها من لبنان طبقاً لما نصّ عليه إتفاق الطائف سنة 1989، وأن تتوقف عن التدخل في الشؤون اللبنانية الداخلية.

كان لبنان، طيلة ثلاثين عاماً ونيفاً، أي من العام 1943 ولغاية العام 1974، بلداً ديموقراطياً مزوداً بدستور علماني وتعددية ثقافية. فالديموقراطية والتعددية ركيزتان قامت عليهما الهوية الوطنية اللبنانية واستقت منهما سبب وجودها. فلا بد من إعادة لبنان الى ما عرف به من ديمقراطية وانفتاح، ومن كونه الجسر بين أوروبا وأميركا الشمالية من جهة، والعالمين العربي والإسلامي من جهة أخرى. فدور صلة الوصل بين الحضارات قد يكون "رسالة" لبنان الجديدة في زمن العولمة.

يستطيع لبنان، لا بل يتعين عليه أن يربط ما بين العرب والغرب، بين الديانات والحضارات. وهو بوصفه مجتمع متنوع ومتعدد الطوائف، قادر على تقديم نفسه نموذجاً في الحوار بين الديانات وحلّ النزاعات الطائفية. ولكم نحن بحاجة إلى مثل هذه التجربة في زمن اختلطت فيه العولمة الاقتصادية بثقافات العالم، مولّدة في غالب الأحيان موجة استياء وتنازع.

لبنان حالة مثيرة للاهتمام، ليس فقط لجهة تاريخه الحافل بالديموقراطية والتعددية، بل أيضاً لأن ظاهرة الإرهاب الحديثة قد ظهرت أولاً في ذلك البلد منذ أكثر من عشرين عاماً. فخلال عهدي، شهدت بلادي وإدارتي أزمات عديدة ومتداخلة، بما فيها أزمة التطرف الإسلامي والتدخل الخارجي في شؤوننا الداخلية والاجتياح الإسرائيلي المدمّر. والجدير ذكره أن بيروت هي العاصمة العربية الوحيدة التي تعرضت للاحتلال من القوات الإسرائيلية.

أما بالنسبة للإرهاب، فالمجتمع اللبناني هو أكثر المجتمعات معرفةً بآثاره المدمرة. فبعدما شعر كبار المسؤولين من اللبنانيين بلذعته، حاولوا أن يحذروا العالم من العواقب الوخيمة المحتملة بغياب حل جماعي للمشكلة. على سبيل المثال، خلال زيارة قمت بها إلى بريطانيا في كانون الأول/ديسمبر 1983، تحدثت عن خطر الإرهاب على الشكل الآتي:

إن نيران الحرب التي طاولت الشعب اللبناني سرعان ما ستنتشر، إن لم تحاصر، إلى سائر العالم العربي والشرق الأوسط... فتهدد بدورها وجود الأمم الأوروبية، مما يستحيل نزاعاً أوسع، إن لم تُتّخذ تدابير فورية لدرء هذا الخطر. فالمجازفة بالقليل تقي من الحاجة إلى المجازفة بالكثير في المستقبل.

ولبنان، في تاريخه الحديث القصير نسبياً، قد مرّ بكل ما يتعرض له العالم العربي والولايات المتحدة اليوم، بصفتها قوة شرق أوسطية: اصطدام مع الإرهاب، وتحدي التوفيق بين التنوع والوحدة الوطنية، والحاجة الملحة إلى سلام إقليمي.

أعتقد أن الوقت قد حان كي ننظر إلى النواحي الإيجابية التي انطوى عليها تاريخ لبنان، فنفيد من هذه الخصائص التي ساهمت في إرساء الديموقراطية واستحداث تقنيات لإدارة النزاعات. ولا شك في أن الدروس المنبثقة عن التجربة اللبنانية، إيجابيةً أم سلبيةً كانت، تقدم العديد من المؤشرات حول كيفية تنظيم شؤون الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين.

حضرة السيدات والسادة، إذ أشكركم على هذا اللقاء، أرغب في مغادرتكم بهذا التأمل: مصير الولايات المتحدة ومصير الشرق الأوسط متداخلان، وذلك منذ زمن بعيد. لذا أقدم الرؤساء الأميركيون جميعهم، في مرحلة ما من عهدهم منذ عهد الرئيس ترومان، على التدخل تدخلاً شخصياً وعميقاً لإحقاق السلام في الشرق الأوسط.

ولكنّ بُعداً جديداً قد أُضيف اليوم على هذا الواقع. فمع التدخل الأميركي في العراق، باتت الولايات المتحدة قوة شرق أوسطية بحد ذاتها. ولا يجوز للقوة العظمى الوحيدة في العالم، بعد أن دخلت المنطقة بقوة السلاح أو السلطة، أن تجول هذه الأراضي الخطرة لوحدها. لذا، فكلٌّ من الولايات المتحدة والعرب بحاجة ملحة إلى الشراكة.

العرب اليوم يترقبون الولايات المتحدة عن كثب، فهم قلقون حيال طبيعة ومعنى النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. وهم يتساءلون: "هل تسعى الولايات المتحدة إلى الإصلاح أم إلى الاحتلال؟" ينبغي اعتماد رؤية قائمة على الشراكة إن كان لا بد من أن تلحق المنطقة بركاب الديموقراطية.

بصفتي رئيس دولة سابق، اكتسبت خبرة كبيرة في التعامل مع هذا النوع من التحديات التي تواجهها منطقة الشرق الأوسط؛ وأنا أعي تماماً المأساة الناجمة عن تفويت الفرص. ولكنني على ثقة أن شراكة جديدة سوف تنشأ. فاليوم، بات النجاح رهناً برؤيا مقرونة بإرادة عازمة على تنفيذها على أرض الواقع، في حالات معنية كما في المنطقة بصورة عامة.

والرؤية التي أنادي بها هي في متناول يد هذين الشريكين اللذين تميز تاريخهما بإنجازات عظيمة. فمنذ مائتي عام تقريباً، وعدت الولايات المتحدة بقيام "نظام جديد لمدى الدهور". وبات هذا النظام الجديد واقعاً اليوم. أما العرب، فبوسعهم استرداد الثقة في أنفسهم كون ثقافتهم احتضنت الإسلام، تلك القوة الحضارية العظيمة التي حققت إنجازات لا نظير لها.

لقد شكلت الشراكة الأميركية الأوروبية في القرن الماضي ركيزةً للنظام العالمي. واليوم، ينبغي أن تشكل الشراكة الأميركية العربية ركيزةً للسلام والازدهار في المنطقة والعالم.

شكراً لانتباهكم.