Back to Lectures

لبنـان... البلد الميثاقـي

2002-04-22

لبنـان... البلد الميثاقـي

اميـن الجميّــل

* * *

جامعـة سيّـدة اللويـزة
22 نيسـان 2002

مقدمة
يرى بعض المفكرين وأساتذة العلوم السياسية أن التجانس الاجتماعي والتوافق السياسي هما عنصران هامان لا بد منها لديمقراطية مستمرة ومستقرة. أما المجتمع التعددي والذي يتشكل من جماعات متباينة، ثقافياً وحضارياً، فهو قلما يعرف الاستقرار أو الديمقراطية.
على الرغم من ذلك قام فلاسفة سياسيون أميركيون آخرون بدراسة شكل آخر من الديمقراطية يسمّونها ديمقراطية توافقية (démocratie consociationelle) وهي تخالف التأكيد السابق. يؤكد هؤلاء أن هذه الديمقراطية قد تكون صعبة، لكنها ممكن أن تؤدي الى بلوغ ديمقراطية مستقرة ودائمة في مجتمع تعدّدي إذا ما توفرت بعض الشروط. وقد أعطوا أمثلة على ذلك في الديمقراطيات الغربية وذكروا لبنان بين البلدان القليلة من العالم التي حققت نجاحاً ملحوظاً على هذا الصعيد.
فما هو سرّ (أو سبب) هذا التمايز اللبناني؟ مع العلم أن منطقة الشرق الأوسط بأسرها هي مسرح لنزاعات مستمرة، غارقة في مستنقع العصبيات الدينية المتأججة والمصالح المتضاربة والعقائد المتصارعة. كما أنه تتحكّم بشعوبها أنظمة توتاليتارية صارمة، لا تترك لهم مجالاً للمراجعات النقدية أو للحوار مع الذات أو مع السلطة. إنها أنظمة معادية للإصلاح والتقدّم.
إن سرّ (أو سبب) هذا التمايز اللبناني، يكمن في التجربة اللبنانية بالذات التي سلكت طريق التوافق الميثاقي المتجدّد خلال حقبات من الزمن؛ فتأسس نظام سياسي مركّب وفريد ومتطور يأخذ بالاعتبار التنوّع السكاني اللبناني الغني والخلاّق.
إن هذا النظام، ولفترة طويلة، رفع لبنان الى مرتبة الدول العصرية السيّدة والمستقلة، الضامنة لحقوق الفرد والجماعات. فعلى مدى التاريخ، كان لبنان كلما تمسّك شعبه والمسؤولون فيه، بهذا التوافق الميثاقي الأهلي والوطني حول الثوابت والمقدسات، نعم بالاستقرار الداخلي وصمد أمام الزلازل والعواصف. وكلما حاد عن المنطق الميثاقي، تصدّعت وحدته الوطنية وتعرّض لأبشع الأزمات وأشرس الحروب.

I - التقاليد الميثاقية
أنعم الله والطبيعة على لبنان بمجموعة عوامل ساهمت في تكوين كيان وطني ومجتمع تعددي تميّزا في هذه المنطقة، بمسارهما الإنساني والحضاري والسياسي. منذ البدء، تجمّع على هذه الأرض الجبلية والساحلية المعطاء جماعات إتنية ومذهبية متعدّدة هاربة من الاضطهاد والحروب الدموية، باحثة عن الحرية والسلام، فوجدتهما في نظام يقوم على الحوار الوطني البنّاء والمبدع وعلى الاعتراف بالآخر وعلى التفاهم معه على بناء المستقبل المشترك.
1- نظام المتصرفية
فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبعد الأحداث الدموية التي عصفت في الجبل، اقتنع اللبنانيون أنه لا خلاص لهم، إلا من خلال الالتقاء على مفهوم الوطن ودوره، وعلى آلية لإدارته يشارك فيها الجميع: فكان نظام المتصرفية سنة 1861 الذي وضع حداً للاقتتال الطائفي، وأرسى نظاماً ميثاقياً أداته الرئيسية، مجلس إدارة تتمثل فيه كل الطوائف والمذاهب، ويجسّد إرادة اللبنانيين في التلاقي والمشاركة في إدارة شؤون بلادهم. وكانت هذه التجربة الأولى والفريدة من نوعها في الشرق الأوسط القابع تحت سيطرة الباب العالي وأوليائه العثمانيين.
إن هذه التجربة المقتبسة من العادات والتقاليد المحلية، تجذّرت في العقول والنفوس، اقتناعاً من الجميع أن المنطق الميثاقي فقط، أي التوافق الوطني، يحفظ الحياة والكرامات، ويؤسّس لوطن يتّسع للجميع، فيما الخروج عنه يعني الحروب والدمار والموت.
2- إعلان "لبنان الكبير"
لدى أفول الإمبراطورية العثمانية، والشعور بإمكانية التخلص من التبعية للباب العالي، بدأت المرجعيات والقيادات الوطنية لقاءات بعيدة عن الأضواء من أجل بلورة مشروع ميثاق وطني جديد يحقق الاستقلال ويعزّز وحدة أبنائه في ظل نظام سياسي يضمن الحرية والمساواة. لم يرق الأمر، بالطبع، للسلطات المحتلة، فحاولت الالتفاف عليه بالمشانق والدم. إنما الظروف الاستراتيجية في المنطقة والإرادة الوطنية كانتا أقوى من آلة الدمار العثمانية. ففي سنة 1919، توافقت القيادات اللبنانية على ضرورة دفع مسيرة الاستقلال، وصياغة مشروع نظام سياسي يحقق الوحدة الوطنية والديمقراطية المركبة، تمتيناً لهذه الوحدة وتحصيناً لها. فكان الوفد اللبناني الى مؤتمر فرساي في فرنسا برئاسة البطريرك الحويك وعضوية ممثلين عن كل طوائف لبنان تعبيراً عن إرادة العيش معاً في إطار دولة واحدة.
تجدر الإشارة الى أن المشروع الوطني الذي حمله الوفد تميّز بالحكمة والشجاعة وبعد النظر. إذ أكد المشروع على ضرورة تحقيق لبنان الكبير، رغم التحذيرات التي تلقاها البطريرك الحويّك والضغوطات بحجة أن إعادة ضم الأقضية الأربعة ومدن الساحل الى الجبل، من شأنه أن يغيّر في وقت قريب بالتوازن الطائفي لصالح المسلمين، وبالتالي أن يفرّط بدور المسيحيين ومستقبلهم. فتشبّث البطريرك الحويّك وكل أعضاء الوفد من مسيحيين ومسلمين، بموقفهم إيماناً منهم أن لبنان لا يمكن أن يعيش إلا إذا كان صاحب رسالة، وإن هذه الرسالة لا تتحقق إلا من خلال ميثاق وطني يلتزم به كل أبناء الوطن الواحد، ويؤكد على صيغة التعايش وعلى المشاركة والحرية. هذا الرهان الميثاقي صمد وتطوّر ومكّن لبنان من تجاوز مطبّات الحرب العالمية الثانية، لا بل الإفادة منها من أجل تحقيق الاستقلال الوطني.

3- سنة 1943 والميثاق
سنة 1943، تكرّس هذا المنحى الوطني والاستقلالي بفضل التلاحم الداخلي والظروف الدولية والإقليمية التي أتاحت للقيادات الوطنية اللبنانية 1) أن تلتقي في معركة الاستقلال متضامنة ومتكاتفة، 2) وأن تتوافق على ميثاق وطني جديد أسس لقيام دولة سيّدة مستقلّة، 3) وأن تصيغ نظاماً سياسياً ديمقراطياً يرفع دولة لبنان الحديثة العهد الى مرتبة الدول العصرية والمتطورة على كل الصعد.
في هذه الفترة، كما في المحطات المصيرية من تاريخ الوطن، 1) وفيما كان المجتمع يتخبّط بصراعات خطيرة حول المسار والمصير، 2) والدول الخارجية تحاول أن تخترق الساحة اللبنانية وتضغط عليها تحقيقاً لمصالح لا علاقة للبنان فيها، 3) وفيما التساؤلات الوجودية وتلك المتعلقة بالهوية على كل شفة ولسان، في هذه الفترة بالذات، قامت قيادات ذات رؤية وطنية واضحة وتتحلى بالشجاعة والقدرة، تفرض بقوة الإقناع رؤيتها الوطنية، وتدفع البلاد باتجاه الحلول الميثاقية المنقذة. وإذا كان البطريرك الحويك ورفاقه من مسلمين ومسيحيين قد أسسوا سنة 1919 الدولة اللبنانية بحدودها الحاضرة، فإن رياض الصلح ورفاقه من مسيحيين ومسلمين قد أسسوا هم أيضاً الميثاق الوطني الذي وضع حداً لمشاريع التقسيم أو الوحدة العربية أو الدولة المذهبية أو الطائفية الرائجة في ذلك الوقت، وأطلقوا مسيرة الوحدة الوطنية والدولة السيّدة المستقلّة.
ونذكّر هنا بالموقف الشجاع لرياض الصلح أمام تجمّع شعبي هائج إتهمه بالعمل ضد حلم الوحدة العربية، فأجاب: "إني أفضّل الوحدة التي صنعناها بين مسيحيين ومسلمين عرب، على حلم وحدة عربية لا تزال وهمية".
إن ميثاق 1943 أنهى أزمة سياسية خطيرة كادت تضع الموارنة المطالبين بحماية فرنسية في مواجهة فريق كبير من المسلمين يريد الوحدة مع سوريا. وكان هذا الموقف يتطلب قدراً كبيراً من بعد النظر والشجاعة من قبل قيادات مثل رياض الصلح، بشاره الخوري، عادل عسيران، كميل شمعون، بيار الجميل وآخرين، واجهوا موجات التطرف كل في معسكره، وساروا في طريق الوحدة والاستقلال والمساواة والديمقراطية والحرية.
لقد أسس هذا الميثاق لمرحلة مشرقة من تاريخ لبنان، وصمد بلدنا أمام هزّات إقليمية خطيرة، وارتقى شعبه الى مرتبة الشعوب الأكثر رقيّاً في محيطه، وهو صاحب دور ورسالة.

4- الثورة الناصرية وأحداث 1958
عند إقامة دولة إسرائيل سنة 1947 ، صمدنا بوجه انعكاسات النكبة. حقبة، ضربت فيها الأنظمة العربية والشعب العربي في الصميم. تضامن لبنان مع الأشقاء الفلسطينيين واستضاف عدداً من اللاجئين إليه بكل حفاوة ومحبة، وترسّخت الوحدة الوطنية من خلال الوقفة المشتركة بوجه الدولة الصهيونية. البطريرك عريضه، طلب آنذاك فتح الكنائس والأديرة لهؤلاء الأخوة، وتقاسم معهم الشعب اللبناني لقمة العيش.
كذلك سنة 1958، في أوج الدعوات الناصرية للوحدة والاشتراكية، صمد لبنان كياناً ونظاماً أمام محاولة تذويب الكيان وتغيير النظام. وقد تطوّرت الأحداث الدراماتيكية على النحو الذي أقنع الجميع بأن لا خلاص لأبناء الوطن الى أية فئة انتموا إلا بالوحدة والانصهار. فكان شعار لا غالب ولا مغلوب وكانت العودة الى منطق الميثاق الذي تمّت ترجمته بعهد الرئيس شهاب في نصوص تطبيقية واضحة.

5- الانفلاش الفلسطيني
ثم الأحداث التي عصفت بلبنان منذ السبعينات بسبب الانفلاش الفلسطيني على أرضنا واضطرارنا للتوقيع على اتفاق القاهرة تحت تأثير الضغوط العربية. وهو نقيض المنطق الميثاقي الذي أسس كيان لبنان وحفظه. فعصفت بالبلاد حرب شرسة لم نزل نعاني من نتائجها حتى يومنا هذا. ولكن، عندما تفاقمت الأمور، لم يجد الوسطاء والأقرقاء إلا العودة الى روح الميثاق: فكانت الوثيقة الدستورية سنة 1973 في عهد الرئيس سليمان فرنجيه وبمبادرة منه؛ والتي تعود بروحها وجوهرها وخطوطها العريضة الى ميثاق 1943.
6- اتفاق الطائف
إنما الأزمة كانت أكبر من الجميع والظروف غير ناضجة للحل، والقوى الإقليمية لم تزل تصب الزيت على نار الأزمة اللبنانية المشتعلة. فاستمرت الحرب الى سنة 1989. عندئذ التقى نواب لبنان، بمسعى مشكور من الملك فهد بن عبد العزيز، يفتشون عن مخرج للمأزق الذي تتخبط فيه البلاد والعباد. مرة جديدة، لم يجدوا إلا العودة الى روح الميثاق وتطبيق مستلزماته وتطويره بما يلتقي مع ضرورات المرحلة. وإذا كنا لا نزال نعاني حتى الآن من ذيول الحرب اللبنانية، فهو لسبب بسيط أن بعض بنود هذا الاتفاق ظلت غامضة والبعض الآخر لم يطبّق.
من هذه البنود الغامضة: العلاقة العضوية الضائعة ما بين المؤسسات الدستورية (رئاسة مجلس النواب، مجلس الوزراء)، وطريقة تحقيق السيادة اللبنانية. أما من أهم البنود التي لم تطبّق، فهي تلك المتعلقة بالوفاق الوطني وبإعادة انتشار الجيش السوري. وستبقى أزمة الثقة بين المواطن ودولته قائمة طالما أننا لم نتقيّد نصاً وروحاً بمستلزمات الميثاق الشفافة والواضحة.

* * *

II – مفهوم الميثاق ودور الوطن
سيبقى الوضع اللبناني هشاً ومتأزماً طالما أننا لم نتفق لبنانياً حول مجمل القضايا الوجودية وتلك التي تتحكم بالمصير وحقوق وواجبات كل الفئات والجماعات التي يتكون منها المجتمع اللبناني. بشرط أن يكون هذا الاتفاق بروحية الوفاق الصحيح الصادق والشفاف، من دون مواربة أو خداع.
كان رياض الصلح يقول: "المهم أن يشعر المسيحيون بالاطمئنان، وما يطمئنهم يجب أن يكون في النصوص أو في الممارسة".
وهذا ما ذهب إليه الشيخ محمد مهدي شمس الدين، طيّب الله ثراه، عندما قال: "إن المسيحيين خائفون على كيانهم، وهذه ظاهرة في رأيي مبرّرة، لا استنكرها ولا ألوم المسيحيين عليها. ومن حقهم أن يخافوا، ومن واجب المسلمين أن يوفّروا لهم ضمانات إزالة هذا الخوف".
وعندي، إن على المسيحيين أيضاً أن يبادلوا المسلمين ما يوحي إليهم كذلك بالثقة والاطمئنان.

1- مفهوم الميثاق
1. إذا عدنا الى القاموس نرى أنه يفسّر الميثاق بكلمة "عهد"، وكلاهما يفترضان الثقة المتبادلة بين أطرافهما، بل أكثر من ذلك، وهو أن يطمئن الواحد الى الآخر. والمسألة هنا، ليست مسألة نصوص مكتوبة. فالميثاق الوطني هو روح أكثر مما هو نصوص. ولعلّ غير المكتوب في ميثاق 1943 هو أهم من المكتوب. فالأعراف والتقاليد التي نشأت مع العيش المشترك تتجاوز، أحياناً، النصوص الدستورية.
2. إلا أن الميثاق الوطني هو أيضاً وخصوصاً تربية وتنشئة عليه، وعلى روحه ومعانيه، في العيلة والمدرسة، وفي الأحزاب وسائر تنظيمات المجتمع المدني. ومن هنا دعوتي الى إنشاء منتدى أو مركز دراسات وأبحاث يعنى بهذا الشأن ويقحم الأكاديميين والباحثين في بلورة مفهوم الميثاق الوطني، كطريقة حياة بين جماعات متعدّدة.
3. أيضاً، إن الميثاق ليس ميثاقاً للحالة الحالية، أو لحالة محددة، بل هو يتميّز بالديمومة. فهو وعد. والوعد هو بداية لتاريخ ولغد ومصير. إنه التزام بتاريخ آت، ننتظر منه تحقيق ما التزمنا به بالوعد. وهذا الوعد لا يستطيع أن يتجاهل الواقع وإمكانياتنا البشرية، والتنافرات والترددات التي لا بد منها في هذا الزمن الرديء، وأن نعمل على معالجتها.
وهذا الوعد يربطنا أيضاً بالتاريخ، لا بل يفتح أمامنا تاريخاً جديداً يقودنا الى تحقيق الوعد الذي لا بد من الأمانة له، أياً كانت المعارضات ومراحل التخاذل.
4. والميثاق يقتضي أيضاً الالتزام. والالتزام هو سلوك وفعل معاً: كسلوك، هو قبول الانخراط في المسيرة المشتركة. وهو الدخول في اختيار حرّ يصبح ملزماً، وهو يفترض أننا نقبل بالشيء الذي نلتزم به ونتحمّل مسؤوليته، لأنه يطلب منا الانفتاح على المستقبل.
والالتزام-السلوك هو ربط المصير بما التزمنا به، فلم يعد شيئاً خارجياً طالما أننا ربطنا مصيرنا به وبكل ما يرافقه.
من كل ما أوردنا يظهر أن الميثاق يلزم الإنسان في عمق وجدانه وسلوكه لتحقيق الوعد الذي انفتح أمامه.

2- دور الوطن
إن العودة الى الميثاق، في روحه وفي نصوصه كلها 1) يحفظ الكيان، 2) يعزز اللحمة بين اللبنانيين 3) ويعيد للبنان دوره الحضاري والإنساني والسياسي في هذه المنطقة وفي العالم. إن قضية لبنان تكمن أساساً في دوره. منذ البدء تميّز لبنان كونه يقوم بمهمة ذات بعد إنساني وحضاري. كلما تعززت روحية الميثاق لدى أبنائه استوعبوا هؤلاء دورهم وقاموا بكل جدارة وفعالية بهذه المهمة الموكولة إليهم.
في هذا الزمن وهذا العالم حيث الصراعات الإتنية والمذهبية والدينية تمزق المجتمعات وتدفع الى أشرس الحروب والعنف السياسي، استمر لبنان موئلاً لكل الإتنيات والمذاهب والأديان. بقي واحة إلفة وتضامن، يصارع أبناؤه من أجل المحافظة عليها، ويعطي للإنسانية نموذجاً لصيغة وطنية يمكنها أن تستوعب الأضداد، لا بل أن تحولها الى مصدر جمال وغنى يستفيد منها استقراراً وازدهاراً، ليس لبنان فحسب، بل كل مجتمع هو بحاجة الى نموذج للتعايش والانفتاح على الآخر، يضمن له الحد الأدنى من سلامه الداخلي.
من الهند الى فلسطين مروراً بقبرص، والأكراد والشيشان، كلها أمثلة عن المآسي التي يعاني منها الإنسان في بداية هذا القرن الذي يريده البعض قرن العدالة وحقوق الإنسان والشعوب. وحتى مجتمعات أخرى مثل ايرلندا وكيبيك، لا تزال تفتش عن صيغة تحقق للناس حقوقها وطموحاتها وتطلعاتها. ويبقى لبنان محط أنظار الباحثين والمعنيين الذين يفتشون عن الحلول والصيغ في هذا المضمار.
من هنا أطلق قداسة البابا أثناء زيارته الى لبنان كلمته المأثورة: "إن لبنان هو أكثر من بلد، بل هو رسالة".
من خلال ميثاق 1943 ووثيقة الطائف الميثاقية سنة 1989 على علاتها، تفاهم اللبنانيون فيما بينهم على المقدسات والبديهيات التي أسست الكيان اللبناني: 1) فتحددت نهائية الكيان اللبناني 2) السيّد المستقل، 3) ذي الهوية العربية الواضحة المعلنة، 4) يحقق المساواة في الحقوق والواجبات والأدوار في إدارة البلد، 5) في ظل نظام يضمن الحريات الشخصية والعامة، لا سيما حرية المعتقد التي لم يكن لها وجود في الشرق قبل تأسيس الكيان اللبناني. بعد تحقيق هذه التسوية التاريخية، لا يبقى سوى أن يستعيد بلدنا دوره الإنساني والحضاري.
إن التخلي عن هذا الدور-الرسالة، يعني بقاء لبنان ساحة لصراعاته وصراعات الآخرين وسيلة لتحقيق أغراض تتناقض وهذه الرسالة المنشودة وهذه المهمة وهذا الدور.

خاتمة
أعرف ما يدور في أذهانكم من تساؤلات، البعض يتساءل حول الفائدة من هذا الكلام على الميثاق أو على تجربة لبنان الميثاقية فيما الأرض تهتز تحت أقدامنا بفعل ما يحدث في فلسطين وعلى حدودنا مع فلسطين. لا شك أن المصير على كفّ عفريت كما يقال، بل فيما الميثاق الوطني نفسه معلّق في أهم بنوده، وهي المتصلة بالسيادة الوطنية الباقية معلّقة الى أجل غير معروف.
والحقيقة أنني، عمداً، اخترت هذا الموضوع للقائنا اليوم للدلالة على أمرين:
- الأول، هو أن التجربة اللبنانية تجربة ناجحة لكنها مقيّدة، بحكم الظروف الإقليمية، أو هي –إذا شئتم- تحت الاحتلال. فالعيب ليس في هذه التجربة بل في ما يصحّ توصيفه بالاعتداء الخارجي عليها. وتبقى هي الحل عندما يصبح هذا الحل متاحاً.
- الأمر الثاني، هو أن العالم، فعلاً، في حرب كونية ثالثة أو ما يشبهها، تتمثل في هذه النزاعات الدينية أو المذهبية أو الاتنية التي تنشر في شتى جوانب الأرض، في وسط القارة الأوروبية بالذات، في يوغوسلافيا السابقة، وفي الاتحاد الروسي (الشيشان) وفي شبه القارة الهندية، وفي القارة الإفريقية كلها. أفما قيل أن العصر عصر صدام الحضارات؟
إن كل هذه النزاعات هي من تحكم الأكثريات بالأقليات أو من سيطرة أقليات نشطة ومتحركة على أكثريات، أو من فقدان الاعتراف بالآخر، وبخصوصية كل جماعة في الدولة الواحدة. الأمر الذي يبيّن كم كان اللبنانيون سبّاقين في اكتشاف الصيغة الفضلى للتأليف بين الخصوصيات الثقافية والحضارية، وبخاصة في هذا العصر، عصر العولمة التي تجعل من كل جماعة أكثر خوفاً من اي وقت مضى على خصوصيتها الثقافية أو الحضارية.
لقد برهن لبنان، على مدى عقود من الزمن، على أن إرادة العيش معاً بين جماعات متباينة، ثقافياً وحضارياً، ليس أمراً مستحيلاً متى تمّ التعاقد بين هذه الجماعات على غد مشترك يضمن الحريات وحقوق الإنسان، من خلال الاعتراف المتبادل، بل بالامتناع عن التعامل مع هذه الجماعات كما لو أنها مادة جامدة يمكن أو يجوز صهرها على نار حامية وصبّها في قالب واحد.
فلنكف عن تحميل التجربة اللبنانية مسؤولية ما حدث ويحدث للبنان. إنها التجربة-المثال لكل الفروقات بين البشر، وكل الصراعات. ولا أجد حلاً للصراع في الشرق الأوسط، وللنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، إلا بالاقتباس عن تجربة لبنان، الحضارية والإنسانية بامتياز.

عشتم
وعاش لبنان 

لبنـان... البلد الميثاقـي

اميـن الجميّــل

* * *

جامعـة سيّـدة اللويـزة
22 نيسـان 2002

مقدمة
يرى بعض المفكرين وأساتذة العلوم السياسية أن التجانس الاجتماعي والتوافق السياسي هما عنصران هامان لا بد منها لديمقراطية مستمرة ومستقرة. أما المجتمع التعددي والذي يتشكل من جماعات متباينة، ثقافياً وحضارياً، فهو قلما يعرف الاستقرار أو الديمقراطية.
على الرغم من ذلك قام فلاسفة سياسيون أميركيون آخرون بدراسة شكل آخر من الديمقراطية يسمّونها ديمقراطية توافقية (démocratie consociationelle) وهي تخالف التأكيد السابق. يؤكد هؤلاء أن هذه الديمقراطية قد تكون صعبة، لكنها ممكن أن تؤدي الى بلوغ ديمقراطية مستقرة ودائمة في مجتمع تعدّدي إذا ما توفرت بعض الشروط. وقد أعطوا أمثلة على ذلك في الديمقراطيات الغربية وذكروا لبنان بين البلدان القليلة من العالم التي حققت نجاحاً ملحوظاً على هذا الصعيد.
فما هو سرّ (أو سبب) هذا التمايز اللبناني؟ مع العلم أن منطقة الشرق الأوسط بأسرها هي مسرح لنزاعات مستمرة، غارقة في مستنقع العصبيات الدينية المتأججة والمصالح المتضاربة والعقائد المتصارعة. كما أنه تتحكّم بشعوبها أنظمة توتاليتارية صارمة، لا تترك لهم مجالاً للمراجعات النقدية أو للحوار مع الذات أو مع السلطة. إنها أنظمة معادية للإصلاح والتقدّم.
إن سرّ (أو سبب) هذا التمايز اللبناني، يكمن في التجربة اللبنانية بالذات التي سلكت طريق التوافق الميثاقي المتجدّد خلال حقبات من الزمن؛ فتأسس نظام سياسي مركّب وفريد ومتطور يأخذ بالاعتبار التنوّع السكاني اللبناني الغني والخلاّق.
إن هذا النظام، ولفترة طويلة، رفع لبنان الى مرتبة الدول العصرية السيّدة والمستقلة، الضامنة لحقوق الفرد والجماعات. فعلى مدى التاريخ، كان لبنان كلما تمسّك شعبه والمسؤولون فيه، بهذا التوافق الميثاقي الأهلي والوطني حول الثوابت والمقدسات، نعم بالاستقرار الداخلي وصمد أمام الزلازل والعواصف. وكلما حاد عن المنطق الميثاقي، تصدّعت وحدته الوطنية وتعرّض لأبشع الأزمات وأشرس الحروب.

I - التقاليد الميثاقية
أنعم الله والطبيعة على لبنان بمجموعة عوامل ساهمت في تكوين كيان وطني ومجتمع تعددي تميّزا في هذه المنطقة، بمسارهما الإنساني والحضاري والسياسي. منذ البدء، تجمّع على هذه الأرض الجبلية والساحلية المعطاء جماعات إتنية ومذهبية متعدّدة هاربة من الاضطهاد والحروب الدموية، باحثة عن الحرية والسلام، فوجدتهما في نظام يقوم على الحوار الوطني البنّاء والمبدع وعلى الاعتراف بالآخر وعلى التفاهم معه على بناء المستقبل المشترك.
1- نظام المتصرفية
فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبعد الأحداث الدموية التي عصفت في الجبل، اقتنع اللبنانيون أنه لا خلاص لهم، إلا من خلال الالتقاء على مفهوم الوطن ودوره، وعلى آلية لإدارته يشارك فيها الجميع: فكان نظام المتصرفية سنة 1861 الذي وضع حداً للاقتتال الطائفي، وأرسى نظاماً ميثاقياً أداته الرئيسية، مجلس إدارة تتمثل فيه كل الطوائف والمذاهب، ويجسّد إرادة اللبنانيين في التلاقي والمشاركة في إدارة شؤون بلادهم. وكانت هذه التجربة الأولى والفريدة من نوعها في الشرق الأوسط القابع تحت سيطرة الباب العالي وأوليائه العثمانيين.
إن هذه التجربة المقتبسة من العادات والتقاليد المحلية، تجذّرت في العقول والنفوس، اقتناعاً من الجميع أن المنطق الميثاقي فقط، أي التوافق الوطني، يحفظ الحياة والكرامات، ويؤسّس لوطن يتّسع للجميع، فيما الخروج عنه يعني الحروب والدمار والموت.
2- إعلان "لبنان الكبير"
لدى أفول الإمبراطورية العثمانية، والشعور بإمكانية التخلص من التبعية للباب العالي، بدأت المرجعيات والقيادات الوطنية لقاءات بعيدة عن الأضواء من أجل بلورة مشروع ميثاق وطني جديد يحقق الاستقلال ويعزّز وحدة أبنائه في ظل نظام سياسي يضمن الحرية والمساواة. لم يرق الأمر، بالطبع، للسلطات المحتلة، فحاولت الالتفاف عليه بالمشانق والدم. إنما الظروف الاستراتيجية في المنطقة والإرادة الوطنية كانتا أقوى من آلة الدمار العثمانية. ففي سنة 1919، توافقت القيادات اللبنانية على ضرورة دفع مسيرة الاستقلال، وصياغة مشروع نظام سياسي يحقق الوحدة الوطنية والديمقراطية المركبة، تمتيناً لهذه الوحدة وتحصيناً لها. فكان الوفد اللبناني الى مؤتمر فرساي في فرنسا برئاسة البطريرك الحويك وعضوية ممثلين عن كل طوائف لبنان تعبيراً عن إرادة العيش معاً في إطار دولة واحدة.
تجدر الإشارة الى أن المشروع الوطني الذي حمله الوفد تميّز بالحكمة والشجاعة وبعد النظر. إذ أكد المشروع على ضرورة تحقيق لبنان الكبير، رغم التحذيرات التي تلقاها البطريرك الحويّك والضغوطات بحجة أن إعادة ضم الأقضية الأربعة ومدن الساحل الى الجبل، من شأنه أن يغيّر في وقت قريب بالتوازن الطائفي لصالح المسلمين، وبالتالي أن يفرّط بدور المسيحيين ومستقبلهم. فتشبّث البطريرك الحويّك وكل أعضاء الوفد من مسيحيين ومسلمين، بموقفهم إيماناً منهم أن لبنان لا يمكن أن يعيش إلا إذا كان صاحب رسالة، وإن هذه الرسالة لا تتحقق إلا من خلال ميثاق وطني يلتزم به كل أبناء الوطن الواحد، ويؤكد على صيغة التعايش وعلى المشاركة والحرية. هذا الرهان الميثاقي صمد وتطوّر ومكّن لبنان من تجاوز مطبّات الحرب العالمية الثانية، لا بل الإفادة منها من أجل تحقيق الاستقلال الوطني.

3- سنة 1943 والميثاق
سنة 1943، تكرّس هذا المنحى الوطني والاستقلالي بفضل التلاحم الداخلي والظروف الدولية والإقليمية التي أتاحت للقيادات الوطنية اللبنانية 1) أن تلتقي في معركة الاستقلال متضامنة ومتكاتفة، 2) وأن تتوافق على ميثاق وطني جديد أسس لقيام دولة سيّدة مستقلّة، 3) وأن تصيغ نظاماً سياسياً ديمقراطياً يرفع دولة لبنان الحديثة العهد الى مرتبة الدول العصرية والمتطورة على كل الصعد.
في هذه الفترة، كما في المحطات المصيرية من تاريخ الوطن، 1) وفيما كان المجتمع يتخبّط بصراعات خطيرة حول المسار والمصير، 2) والدول الخارجية تحاول أن تخترق الساحة اللبنانية وتضغط عليها تحقيقاً لمصالح لا علاقة للبنان فيها، 3) وفيما التساؤلات الوجودية وتلك المتعلقة بالهوية على كل شفة ولسان، في هذه الفترة بالذات، قامت قيادات ذات رؤية وطنية واضحة وتتحلى بالشجاعة والقدرة، تفرض بقوة الإقناع رؤيتها الوطنية، وتدفع البلاد باتجاه الحلول الميثاقية المنقذة. وإذا كان البطريرك الحويك ورفاقه من مسلمين ومسيحيين قد أسسوا سنة 1919 الدولة اللبنانية بحدودها الحاضرة، فإن رياض الصلح ورفاقه من مسيحيين ومسلمين قد أسسوا هم أيضاً الميثاق الوطني الذي وضع حداً لمشاريع التقسيم أو الوحدة العربية أو الدولة المذهبية أو الطائفية الرائجة في ذلك الوقت، وأطلقوا مسيرة الوحدة الوطنية والدولة السيّدة المستقلّة.
ونذكّر هنا بالموقف الشجاع لرياض الصلح أمام تجمّع شعبي هائج إتهمه بالعمل ضد حلم الوحدة العربية، فأجاب: "إني أفضّل الوحدة التي صنعناها بين مسيحيين ومسلمين عرب، على حلم وحدة عربية لا تزال وهمية".
إن ميثاق 1943 أنهى أزمة سياسية خطيرة كادت تضع الموارنة المطالبين بحماية فرنسية في مواجهة فريق كبير من المسلمين يريد الوحدة مع سوريا. وكان هذا الموقف يتطلب قدراً كبيراً من بعد النظر والشجاعة من قبل قيادات مثل رياض الصلح، بشاره الخوري، عادل عسيران، كميل شمعون، بيار الجميل وآخرين، واجهوا موجات التطرف كل في معسكره، وساروا في طريق الوحدة والاستقلال والمساواة والديمقراطية والحرية.
لقد أسس هذا الميثاق لمرحلة مشرقة من تاريخ لبنان، وصمد بلدنا أمام هزّات إقليمية خطيرة، وارتقى شعبه الى مرتبة الشعوب الأكثر رقيّاً في محيطه، وهو صاحب دور ورسالة.

4- الثورة الناصرية وأحداث 1958
عند إقامة دولة إسرائيل سنة 1947 ، صمدنا بوجه انعكاسات النكبة. حقبة، ضربت فيها الأنظمة العربية والشعب العربي في الصميم. تضامن لبنان مع الأشقاء الفلسطينيين واستضاف عدداً من اللاجئين إليه بكل حفاوة ومحبة، وترسّخت الوحدة الوطنية من خلال الوقفة المشتركة بوجه الدولة الصهيونية. البطريرك عريضه، طلب آنذاك فتح الكنائس والأديرة لهؤلاء الأخوة، وتقاسم معهم الشعب اللبناني لقمة العيش.
كذلك سنة 1958، في أوج الدعوات الناصرية للوحدة والاشتراكية، صمد لبنان كياناً ونظاماً أمام محاولة تذويب الكيان وتغيير النظام. وقد تطوّرت الأحداث الدراماتيكية على النحو الذي أقنع الجميع بأن لا خلاص لأبناء الوطن الى أية فئة انتموا إلا بالوحدة والانصهار. فكان شعار لا غالب ولا مغلوب وكانت العودة الى منطق الميثاق الذي تمّت ترجمته بعهد الرئيس شهاب في نصوص تطبيقية واضحة.

5- الانفلاش الفلسطيني
ثم الأحداث التي عصفت بلبنان منذ السبعينات بسبب الانفلاش الفلسطيني على أرضنا واضطرارنا للتوقيع على اتفاق القاهرة تحت تأثير الضغوط العربية. وهو نقيض المنطق الميثاقي الذي أسس كيان لبنان وحفظه. فعصفت بالبلاد حرب شرسة لم نزل نعاني من نتائجها حتى يومنا هذا. ولكن، عندما تفاقمت الأمور، لم يجد الوسطاء والأقرقاء إلا العودة الى روح الميثاق: فكانت الوثيقة الدستورية سنة 1973 في عهد الرئيس سليمان فرنجيه وبمبادرة منه؛ والتي تعود بروحها وجوهرها وخطوطها العريضة الى ميثاق 1943.
6- اتفاق الطائف
إنما الأزمة كانت أكبر من الجميع والظروف غير ناضجة للحل، والقوى الإقليمية لم تزل تصب الزيت على نار الأزمة اللبنانية المشتعلة. فاستمرت الحرب الى سنة 1989. عندئذ التقى نواب لبنان، بمسعى مشكور من الملك فهد بن عبد العزيز، يفتشون عن مخرج للمأزق الذي تتخبط فيه البلاد والعباد. مرة جديدة، لم يجدوا إلا العودة الى روح الميثاق وتطبيق مستلزماته وتطويره بما يلتقي مع ضرورات المرحلة. وإذا كنا لا نزال نعاني حتى الآن من ذيول الحرب اللبنانية، فهو لسبب بسيط أن بعض بنود هذا الاتفاق ظلت غامضة والبعض الآخر لم يطبّق.
من هذه البنود الغامضة: العلاقة العضوية الضائعة ما بين المؤسسات الدستورية (رئاسة مجلس النواب، مجلس الوزراء)، وطريقة تحقيق السيادة اللبنانية. أما من أهم البنود التي لم تطبّق، فهي تلك المتعلقة بالوفاق الوطني وبإعادة انتشار الجيش السوري. وستبقى أزمة الثقة بين المواطن ودولته قائمة طالما أننا لم نتقيّد نصاً وروحاً بمستلزمات الميثاق الشفافة والواضحة.

* * *

II – مفهوم الميثاق ودور الوطن
سيبقى الوضع اللبناني هشاً ومتأزماً طالما أننا لم نتفق لبنانياً حول مجمل القضايا الوجودية وتلك التي تتحكم بالمصير وحقوق وواجبات كل الفئات والجماعات التي يتكون منها المجتمع اللبناني. بشرط أن يكون هذا الاتفاق بروحية الوفاق الصحيح الصادق والشفاف، من دون مواربة أو خداع.
كان رياض الصلح يقول: "المهم أن يشعر المسيحيون بالاطمئنان، وما يطمئنهم يجب أن يكون في النصوص أو في الممارسة".
وهذا ما ذهب إليه الشيخ محمد مهدي شمس الدين، طيّب الله ثراه، عندما قال: "إن المسيحيين خائفون على كيانهم، وهذه ظاهرة في رأيي مبرّرة، لا استنكرها ولا ألوم المسيحيين عليها. ومن حقهم أن يخافوا، ومن واجب المسلمين أن يوفّروا لهم ضمانات إزالة هذا الخوف".
وعندي، إن على المسيحيين أيضاً أن يبادلوا المسلمين ما يوحي إليهم كذلك بالثقة والاطمئنان.

1- مفهوم الميثاق
1. إذا عدنا الى القاموس نرى أنه يفسّر الميثاق بكلمة "عهد"، وكلاهما يفترضان الثقة المتبادلة بين أطرافهما، بل أكثر من ذلك، وهو أن يطمئن الواحد الى الآخر. والمسألة هنا، ليست مسألة نصوص مكتوبة. فالميثاق الوطني هو روح أكثر مما هو نصوص. ولعلّ غير المكتوب في ميثاق 1943 هو أهم من المكتوب. فالأعراف والتقاليد التي نشأت مع العيش المشترك تتجاوز، أحياناً، النصوص الدستورية.
2. إلا أن الميثاق الوطني هو أيضاً وخصوصاً تربية وتنشئة عليه، وعلى روحه ومعانيه، في العيلة والمدرسة، وفي الأحزاب وسائر تنظيمات المجتمع المدني. ومن هنا دعوتي الى إنشاء منتدى أو مركز دراسات وأبحاث يعنى بهذا الشأن ويقحم الأكاديميين والباحثين في بلورة مفهوم الميثاق الوطني، كطريقة حياة بين جماعات متعدّدة.
3. أيضاً، إن الميثاق ليس ميثاقاً للحالة الحالية، أو لحالة محددة، بل هو يتميّز بالديمومة. فهو وعد. والوعد هو بداية لتاريخ ولغد ومصير. إنه التزام بتاريخ آت، ننتظر منه تحقيق ما التزمنا به بالوعد. وهذا الوعد لا يستطيع أن يتجاهل الواقع وإمكانياتنا البشرية، والتنافرات والترددات التي لا بد منها في هذا الزمن الرديء، وأن نعمل على معالجتها.
وهذا الوعد يربطنا أيضاً بالتاريخ، لا بل يفتح أمامنا تاريخاً جديداً يقودنا الى تحقيق الوعد الذي لا بد من الأمانة له، أياً كانت المعارضات ومراحل التخاذل.
4. والميثاق يقتضي أيضاً الالتزام. والالتزام هو سلوك وفعل معاً: كسلوك، هو قبول الانخراط في المسيرة المشتركة. وهو الدخول في اختيار حرّ يصبح ملزماً، وهو يفترض أننا نقبل بالشيء الذي نلتزم به ونتحمّل مسؤوليته، لأنه يطلب منا الانفتاح على المستقبل.
والالتزام-السلوك هو ربط المصير بما التزمنا به، فلم يعد شيئاً خارجياً طالما أننا ربطنا مصيرنا به وبكل ما يرافقه.
من كل ما أوردنا يظهر أن الميثاق يلزم الإنسان في عمق وجدانه وسلوكه لتحقيق الوعد الذي انفتح أمامه.

2- دور الوطن
إن العودة الى الميثاق، في روحه وفي نصوصه كلها 1) يحفظ الكيان، 2) يعزز اللحمة بين اللبنانيين 3) ويعيد للبنان دوره الحضاري والإنساني والسياسي في هذه المنطقة وفي العالم. إن قضية لبنان تكمن أساساً في دوره. منذ البدء تميّز لبنان كونه يقوم بمهمة ذات بعد إنساني وحضاري. كلما تعززت روحية الميثاق لدى أبنائه استوعبوا هؤلاء دورهم وقاموا بكل جدارة وفعالية بهذه المهمة الموكولة إليهم.
في هذا الزمن وهذا العالم حيث الصراعات الإتنية والمذهبية والدينية تمزق المجتمعات وتدفع الى أشرس الحروب والعنف السياسي، استمر لبنان موئلاً لكل الإتنيات والمذاهب والأديان. بقي واحة إلفة وتضامن، يصارع أبناؤه من أجل المحافظة عليها، ويعطي للإنسانية نموذجاً لصيغة وطنية يمكنها أن تستوعب الأضداد، لا بل أن تحولها الى مصدر جمال وغنى يستفيد منها استقراراً وازدهاراً، ليس لبنان فحسب، بل كل مجتمع هو بحاجة الى نموذج للتعايش والانفتاح على الآخر، يضمن له الحد الأدنى من سلامه الداخلي.
من الهند الى فلسطين مروراً بقبرص، والأكراد والشيشان، كلها أمثلة عن المآسي التي يعاني منها الإنسان في بداية هذا القرن الذي يريده البعض قرن العدالة وحقوق الإنسان والشعوب. وحتى مجتمعات أخرى مثل ايرلندا وكيبيك، لا تزال تفتش عن صيغة تحقق للناس حقوقها وطموحاتها وتطلعاتها. ويبقى لبنان محط أنظار الباحثين والمعنيين الذين يفتشون عن الحلول والصيغ في هذا المضمار.
من هنا أطلق قداسة البابا أثناء زيارته الى لبنان كلمته المأثورة: "إن لبنان هو أكثر من بلد، بل هو رسالة".
من خلال ميثاق 1943 ووثيقة الطائف الميثاقية سنة 1989 على علاتها، تفاهم اللبنانيون فيما بينهم على المقدسات والبديهيات التي أسست الكيان اللبناني: 1) فتحددت نهائية الكيان اللبناني 2) السيّد المستقل، 3) ذي الهوية العربية الواضحة المعلنة، 4) يحقق المساواة في الحقوق والواجبات والأدوار في إدارة البلد، 5) في ظل نظام يضمن الحريات الشخصية والعامة، لا سيما حرية المعتقد التي لم يكن لها وجود في الشرق قبل تأسيس الكيان اللبناني. بعد تحقيق هذه التسوية التاريخية، لا يبقى سوى أن يستعيد بلدنا دوره الإنساني والحضاري.
إن التخلي عن هذا الدور-الرسالة، يعني بقاء لبنان ساحة لصراعاته وصراعات الآخرين وسيلة لتحقيق أغراض تتناقض وهذه الرسالة المنشودة وهذه المهمة وهذا الدور.

خاتمة
أعرف ما يدور في أذهانكم من تساؤلات، البعض يتساءل حول الفائدة من هذا الكلام على الميثاق أو على تجربة لبنان الميثاقية فيما الأرض تهتز تحت أقدامنا بفعل ما يحدث في فلسطين وعلى حدودنا مع فلسطين. لا شك أن المصير على كفّ عفريت كما يقال، بل فيما الميثاق الوطني نفسه معلّق في أهم بنوده، وهي المتصلة بالسيادة الوطنية الباقية معلّقة الى أجل غير معروف.
والحقيقة أنني، عمداً، اخترت هذا الموضوع للقائنا اليوم للدلالة على أمرين:
- الأول، هو أن التجربة اللبنانية تجربة ناجحة لكنها مقيّدة، بحكم الظروف الإقليمية، أو هي –إذا شئتم- تحت الاحتلال. فالعيب ليس في هذه التجربة بل في ما يصحّ توصيفه بالاعتداء الخارجي عليها. وتبقى هي الحل عندما يصبح هذا الحل متاحاً.
- الأمر الثاني، هو أن العالم، فعلاً، في حرب كونية ثالثة أو ما يشبهها، تتمثل في هذه النزاعات الدينية أو المذهبية أو الاتنية التي تنشر في شتى جوانب الأرض، في وسط القارة الأوروبية بالذات، في يوغوسلافيا السابقة، وفي الاتحاد الروسي (الشيشان) وفي شبه القارة الهندية، وفي القارة الإفريقية كلها. أفما قيل أن العصر عصر صدام الحضارات؟
إن كل هذه النزاعات هي من تحكم الأكثريات بالأقليات أو من سيطرة أقليات نشطة ومتحركة على أكثريات، أو من فقدان الاعتراف بالآخر، وبخصوصية كل جماعة في الدولة الواحدة. الأمر الذي يبيّن كم كان اللبنانيون سبّاقين في اكتشاف الصيغة الفضلى للتأليف بين الخصوصيات الثقافية والحضارية، وبخاصة في هذا العصر، عصر العولمة التي تجعل من كل جماعة أكثر خوفاً من اي وقت مضى على خصوصيتها الثقافية أو الحضارية.
لقد برهن لبنان، على مدى عقود من الزمن، على أن إرادة العيش معاً بين جماعات متباينة، ثقافياً وحضارياً، ليس أمراً مستحيلاً متى تمّ التعاقد بين هذه الجماعات على غد مشترك يضمن الحريات وحقوق الإنسان، من خلال الاعتراف المتبادل، بل بالامتناع عن التعامل مع هذه الجماعات كما لو أنها مادة جامدة يمكن أو يجوز صهرها على نار حامية وصبّها في قالب واحد.
فلنكف عن تحميل التجربة اللبنانية مسؤولية ما حدث ويحدث للبنان. إنها التجربة-المثال لكل الفروقات بين البشر، وكل الصراعات. ولا أجد حلاً للصراع في الشرق الأوسط، وللنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، إلا بالاقتباس عن تجربة لبنان، الحضارية والإنسانية بامتياز.

عشتم
وعاش لبنان