Back to Lectures

كلمة فخامة الرئيس امين الجميل بمناسبة توقيع كتاب "حارسة الهيكل" جنفياف بيار الجميّل

2001-04-28

كلمة فخامة الرئيس امين الجميل

بمناسبة توقيع كتاب "حارسة الهيكل" جنفياف بيار الجميّل

* * *

إقليم جبيل الكتائبي – 28 نيسان 2001

لا يسعني، بداية، إلا أن أنوّه بما تضمّنه هذا الكتاب الأنيق الشكل والمضمون فهو أكثر من سيرة.
فيه حكاية عن حياة الشيخة جنفياف، "حارسة الهيكل"،
ولكن، فيه أيضاً مشاهد حلوة وعزيزة عن لبنان، قبل أن يجرّح وجهه الحقد الأعمى،
فيه مشاهد عن بيروت قبل أن تفتك بها يد الغدر،
ومشاهد عن الكتائب قبل أن تصاب بما أصيب به لبنان. وما يصيب لبنان يصيب الكتائب. فذلك هو قدرها.
وهذا ما يستوقفني، الساعة، وفي هذه المناسبة، فأتذكّر، وتتذكرون معي،
أن لبنان كان، وعلى مدى عقود من الزمن،
البلد الأحلى في هذه المنطقة من العالم،
والأوسع رحابة أمام التبادل الفكري والثقافي،
والأكثر رعاية للحريات، وأهمّها في هذا الشرق، حرية المعتقد،
والأنقى سمعة في المحافل الدولية والإقليمية، مرفوع الرأس، موفور الكرامة، منبر العرب وصوتهم العالمي.
هكذا كان لبنان!
فجعلوا منه ساحة مفتوحة على كل الحروب والصراعات الإقليمية والفتن،
ثم قالوا، أنه بلد لا ينتج إلاّ الحروب القبلية والفتن،
ثم راحوا ينبشون الدفاتر العتيقة بحثاً عن أي حادث من الحوادث الأمنية للدلالة على أن الفتنة حال ملازمة لوجود هذا البلد، وإن الوصاية عليه لازمة أبداً ومعها الأمن المستعار.
وكم مرة أوقدوا النار فيه كي يبيعوه الأمن بأغلى ثمن؟
وإذا شاء أن يثبت سلامة وجوده، سيداً حراً ومسؤولاً عن نفسه، هدّدوه أيضاً بانهيار السلم الأهلي وبما هو أدهى.
تماماً كما فعلوا في الأمس القريب عندما تعمّدوا ترهيب اللبنانيين بالمشاهد المستنسخة عن حرب مضت،
والغاية، منعهم من المطالبة بالسيادة والاستقلال والقرار الحرّ!

* * *

فهل صحيح أن الخلاف حول أشكال الوجود السوري، العسكري والسياسي، والاقتصادي أيضاً، هو خلاف طائفي؟
طبعاً لا.
الخلاف خلاف سياسي، ولا عيب في ذلك.
الكل يقول، ومن كل الطوائف، أن هناك خللاً في العلاقات اللبنانية-السورية.
ولفظة خلل تقال تأدباً.
والحقيقة أن الأمر هو أكثر من خلل.
والكل يعرف أن هذه العلاقات ليست سوية، ولا متكافئة، ولا هي مميّزة حقاً كما نريدها جميعاً أن تكون.
بل إنها متعارضة مع سيادة لبنان واستقلاله، وتلك هي المسألة.
فاسمحوا لنا بأن نقول الحقيقة كاملة: لا علاقة مميزة، وسليمة، بين البلدين إلاّ من خلال الاستقلال الكامل.
وحسماً لأي سؤ تفاهم أو سجال حول الاستقلال والسيادة وحدودهما في هذا العصر نقول: نعني بالاستقلال والسيادة أن يكون لبنان مسؤولاً عن نفسه. أجل، نريد لبنان مسؤولاً عن نفسه، لا يملى عليه قرار. وهذا لا ينفي حاجة كل بلد الى الآخر، وحاجة لبنان الى سوريا أو حاجة سوريا الى لبنان، ناهيك عن المصالح المشتركة.
فلا استقلال بمعنى الانعزال والانغلاق في زمن العولمة.
ولكن، لا قرارات تفرض على لبنان وأهله.
أما السيادة، فبمعنى أن لا دولة حقيقية بلا سيادة أو منقوصة السيادة، وبخاصة في بلد لا يعيش بلا ديمقراطية، وبلا حريات.
ولهذا السبب كان لبنان جمهورية لا مملكة، وكان نظامه السياسي نظاماً ديمقراطياً برلمانياً لا نظام الحزب الواحد أو الزعيم الأوحد.
فدعوا لبنان يعيش ذاته.
* * *
إن بين وجوده السياسي الحضاري ووجود إسرائيل تناقضاً حاداً.
إنه، في المنطلق والأساس، بلد مقاوم لمشروع الدولة اليهودية، على الأقل دفاعاً عن نفسه، وعن معنى وجوده،
فلا يطلب منه ما لا يطلب من أشقائه.
لا، ليس على لبنان أن يقدّم الدليل في كل يوم على انه بلد مقاوم، فكيف بإكراهه على ذلك؟
هكذا كان التعامل دائماً مع هذا البلد حتى كاد يكفر بنفسه:
أي بإرغامه منفرداً على هذه الحروب المتتالية على حدوده الجنوبية تراوح مكانها منذ ثلاثين عاماً ونيفاً،
وذلك ... فقط للدلالة على أن النزاع العربي-الإسرائيلي باق مشتعلاً!!!
فليسمح لنا، على الأقل، بأن نناقش هذه الاستراتيجية –إن صحّ اعتبارها استراتيجياً حقيقة-
ولا استراتيجيات مقدّسة. أليس كذلك؟
ومن الطبيعي أن تختلف الآراء، في هذه الحال، وتتباين!!!

* * *

فماذا لو كان مصير لبنان قد أصبح على المحك، يبقى أو لا يبقى؟
وهو، في الحقيقة، مهدّد في بقائه، سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً.
ومكابر كل من يقول أن هذه الحروب لم تقصف ظهر لبنان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
يزيد الطين بلّة أن السلام الشامل، الذي من أجله يكره لبنان على هذه الحروب الاستنزافية، قد تأجّل الى زمن لاحق.
وهو سلام قد يأتي، وقد لا يأتي أبداً.
وإذا أتى، في يوم من الأيام، فبعد أن يكون لبنان قد فرغ ممن يشكلون المستقبل كله، شباناً وفتياناً، وأطفالاً كذلك، ورضّعاً في نهاية المطاف.
هذه هي مخاوفنا، بل مخاوف كل اللبنانيين، التي تفرض علينا الاستراتيجية التي، وإن صحّ أنها سليمة من الناحية العسكرية والأمنية، إلاّ أنها تتجاهل عمداً الجانب الاقتصادي والمالي والاجتماعي، والسياسي أيضاً.
وهذا منتهى المجازفة والمغامرة.
أو على الأقل، فلنعدّل في هذه الخطة، ونتحاور حول البدائل. فلماذا الردّ على الدعوة الى الحوار بالتشكيك والتخوين.
إلا إذا كان الحوار هو لا بدّ كاشف للحقيقة التي لا يراد لها أن تظهر.
هذا هو معنى التهويل الذي شاهدنا فصوله في الأسابيع الأخيرة، ولا معنى له سواه.
ومع ذلك نرانا نتشبّث بالحوار الديمقراطي ولا نهاب.
إن وقوفنا في وجه المشروع الإسرائيلي يكون، أولاً، من خلال حقيقة لبنان ومعنى وجوده الحضاري.
إن لبنان، من هذا القبيل، هو خطّ الدفاع الأول. إنه المقاومة الدائمة الثابتة، والملتقي مع المقاومة المنتفضة في فلسطين دفاعاً عن حق الشغب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلّة.
وجود لبنان السياسي والحضاري، والسيد المستقل، هو هذه المقاومة.
إنه لسان حال كل المقاومين للمشروع الإسرائيلي، في العالم كله، وفي كل دنيا الاغتراب اللبناني.
إنه بلد عالمي، فلماذا نختصره في مساحة ضيقة أو في رقعة صغيرة من الأرض؟

* * *
وأعود، ختاماً، الى حيث كانت البداية، بداية هذه الكلمة.
إني أفهم الذين لم يعرفوا لبنان إلاّ ساحة للفتن المفتعلة وخط تماس دائم بين العرب وإسرائيل.
فهم لم يروا ما كان عليه هذا الوطن، من جمال، وشهرة في الانفتاح والديمقراطية والحريات، ومن غنى مادي وروحي، ومن مكانة إقليمية ودولية.
فليس صحيحاً أبداً أن تاريخه يبدأ مع إتفاق الطائف – على رغم أهميته – وإن ما قبله هو من خارج التاريخ. فلولا هذا لما كان ذاك.
وليس صحيحاً كذلك – وهذا ما يهمني التأكيد عليه – أن لبنان بلد ميؤوس منه، معدم، أو لا قيامة له.
فكل أسباب هذه القيامة وشروطها موفورة، مادياً وروحياً.
وفي صورة أوضح: الدولة هي التي ضعفت قدراتها،
أما قدرات لبنان واللبنانيين، المادية والروحية –إذا ما أحسن إطلاقها واستثمارها- فهي كفيلة بإعادة لبنان الى مجده.
فما حدث، ولا يزال يحدث، يكاد يصنّف عملية تهجير للبنانيين، هم وأموالهم وثرواتهم، وللأدمغة التي تعدّ بمئات الألوف.
إنها الثقة في لبنان التي تمّ طمسها، فيجب أن تستعاد.
وبدلاً من أن تلجأ الدولة الى الاستدانة بالمليارات، لتسأل نفسها لماذا الودائع بالمليارات في المصارف اللبنانية والأجنبية،
... أو لماذا مواصلة تهجير الثروة والأدمغة والكفاءات كلها والاستعاضة عن هذه القدرة الذاتية بالديون، بل بالارتهان للأسواق المالية والاحتكارات العالمية وبالفوائد الباهظة؟

* * *
أما حال الكتائب – وأتوجه هنا الى رفاقي الكتائبيين وأصدقائهم والى الذين يفتقدون هذا التنظيم – أما حال الكتائب فهي، تقريباً، حال لبنان، نظراً للعلاقة القائمة بينهما.
فما يحدث للبنان يحدث للكتائب.
والاستيلاء على لبنان هو مثل الاستيلاء على الكتائب في مسار لا يد فيه للبنان وأهله.
وقيامة الكتائب مؤكّدة مثل قيامة لبنان. وليس أدلّ على ذلك من هذه اليقظة تعمّ كل المناطق والأقاليم، الدالة بدورها على أن الكتائب هي، منذ العام 1936، مؤسسة لا زعامة شخصية، وإن كان الشيخ بيار الجميل قد طبعها بشخصيته غير العادية.
لكنها لم تمت، بعد موته، كما تنبئوا لها.
والحق يقال: إن ما تشهده هو ولادة جديدة للكتائب. ولادة تتم على يد جيل متمرّد متحفّز، كالذي على يده كانت الولادة الأولى قبل خمسة وستين عاماً. وقد لعب رفاق لنا في هذا الإقليم بالذات، إقليم جبيل، دوراً طليعياً في مرحلة التأسيس، ومن بعدها. وإننا اليوم نعوّل مجدداً على شباب جبيل الموحّدين والمتضامنين للاستمرار في البذل والعطاء على خطى من سبقهم.
فالكتائب ليست طفرة،
وليس هي مغامرة عابرة،
إنها تجسيد لوطنية لبنانية ظلّت عصيةً على كل أشكال الهيمنة والتسلّط والاحتواء التي مورست على هذا الوطن. فتكسّرت كلها على صخوره، وبقي هو شهادةً للحق والحرية وكرامة الانسان.

عشتـم،
وعـاش لبنــان