Back to Lectures

ضايـا الصراع الديني في العالم ووسائل حلّهـا -ترجمة

1999-05-07

 

جامعة ميريلاند، 7 أيـار 1999

قضايـا الصراع الديني في العالم ووسائل حلّهـا (ترجمة)

عنوان:

أجيء اليكم من وطن تعايشت فيه العديد من المذاهب والطوائف متآلفة تتعاون فيما بينها لخدمة وطنها ولتثبيت دعائم سيادته واستقلاله. فقد كان لبنان دائماً مثلاً يحتذى في منطقة متوترة كمنطقة الشرق الاوسط، وكان نموذجاً للتعايش ميما بين الأديان التي دأب أتباعها في حلّ اختلافاتهم بالوسائل السلميّة هدفهم في ذلك استتباب الأمن والسلام وإقامة نظام ديمقراطي يسوده مبدأ التعايش والتفاهم.

ولكن لبنان اليوم يرزح تحت وطأة الاحتلال ولا يملك إتخاذ قراره، والشعب اللبناني لا يزال متمسكاً بنضاله في سبيل استقلال الوطن وسيادته وإعادة بناء صرح قيمه وتقاليده. فإذا عادت للبنان سيادته وأصبح حرّاً يتمتع بالامن والسلام فإنه سوف يعيد رسالته الخالدة وهي رسالة الحوار والتعايش والتفاهم.

وفي خضم الصراعات الدولية القائمة في العالم اليوم وفي وسط الفوضى والاضطراب السياسي والاقتصادي والفكري، يجد العالم نفسه في أشد الحاجة الى الحوار الصادق البنّاء لحلّ كافة النزاعات والى خلق التفاهم بين الأديان والمذاهب والثقافات.

في كل قارة من القارات تدور رحى نزاعات مريرة منها ما هو ظاهر ومنها ما يدور في الخفاء ويمكن أن تتفجّر في أي لحظة من اللحظات. ولا يقتصر الأمر في ذلك على الدولة النامية فقط، هناك صراعات متعددة تشهدها الدول الصناعية الثريّة بما في ذلك مظاهر العنف الوحشي الذي بدأ يغزو أوساط المراهقين والشباب. وتوحي الصراعات القائمة هذه الى العديد من الناس بأنه أصبح من المستحيل التغلّب على دوامة العنف والقتل، واقتنع هؤلاء أن الصراع والنزاع لا سبيل الى التغلّب عليهما بأي صورة من الصور. إن ما يدور في يوغوسلافيا اليوم لدليل على ما تردت اليه الأحوال، ولا بد من القول أن حرب البلقان هذه تحمل في طيّاتها أخطاراً عظيمة تهدّد الاستقرار والسلام أكان على مستوى منطقة البلقان أو المستوى الأوروبي، منذرةً بتفاقم الوضع لينال من سلامة المجتمع العالمي وأمنه.

ساورنا الأمل بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، ساورنا الأمل في قيام نظام عالمي جديد تزول فيه تلك الصراعات الأيديولوجية التي لوّنت النزاعات والاختلافات الدولية وقسّمت العالم الى معسكرين متقاتلين. وبانهيار حائط برلين عام 1989 إنهار أبرز رمز من رموز الحرب الباردة وبدت في الأفق نوايا خيّرة بشّرت بعظم الآمال والمطامح. وسيدور جدال لا نهاية له بين المعلّقين الأكاديميين حول من انتصر في الحرب الباردة، ولكن من الواضح إن الانتصار، إن كان هناك إنتصار، فازت به الديمقراطية متغلّبة بذلك على الشيةعية الدولية والحكم الديكتاتوري بوجه عام. ولكن علينا ألاّ ننسى أن في نهاية الأمر كان انهيار حائط برلين رمزاً لانتصار الانسان الحرّ على قوى السيطرة والطغيان.

والسؤال الذي يجدر بنا أن نطرحه هو، ماذا حدث بعد انتهاء الحرب الباردة؟ وما هو النموذج الأمثل الذي برز ليحلّ محل الايديولوجية اللينينية - الماركسية ويملأ الفراغ الذي حدث بزوالها. ويمكننا القول ونحن على أعتاب قرن جديد بل وألفيّة جديدة أن انهيار الشيوعية وغيابها فجّرالمشاعر العدوانية في المجموعات الإتنية. وأشعل نار الضغائن العرقية والطائفية كما نشهده في كوسوفو، بالاضافة الى سيطرة فلسفة التجارة الحرّة العالمية وقيام نظام عولمي للنقد والمال وتبادل السلع لا ضابط له ولا رابط.

هلّل المراقبون بعد أحداث 1989 مرحّبين بمولد نظام تجاري حرّ قدّر البعض أنه سوف يقرّر مصير الانسانية. فأبرمت إتفاقيات على جانب عظيم من الخطورة والأهميّة وأقيمت نظم ومؤسسات تنفّذ ذلك النظام التجاري الحرّ، منها اتفاقيات ال GATT وال NAFTA ، بالاضافة الى المؤسسات الأخرى كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي والسوق الأوروبية ومؤسسة السبعة الكبار وغيرها... وقامت كل هذه المؤسسات لترعى "سوق العولمة" هذا كأعظم إنجاز يحقّقه العصر الحديث. ولعلّه من المؤسف حقاً أن نجد أن هذه المؤسسات والاتفاقيات أصبحت تسيطر على مقدّرات الأمور وتتحكّم في النظام الاقتصادي للعولمة مما سيؤثّر تأثيراً عظيماً على مصيرنا كمجتمع إنساني. فقد كتب ريتشارد روزكرانس في مجلة "الشؤون الدولية" Foreign Affairs عام 1996 مؤكّداً بأن "الحضارة العالمية الوحيدة التي يمكن إطلاق هذا الاسم عليها هي الثقافة الاقتصادية المتحكّمة في مقدّرات النظام التجاري الحرّ أي السوق العالمية الراهنة". ولعلّ ريتشارد روزكرانس على حق فيما ذهب إليه، غير إنه لا بدّ أن نعترف أيضاً بأن "هذه الثقافة الاقتصادية المتحكّمة بالنظام التجاري العالمي الراهن" لن تأتي بأي حلّ للتغلّب على مناخ القلق والخوف الذي يسيطر على العالم أجمع.

إن ثورة عام 1989 كان لها ثمن باهظ، فإذا ما أخذنا روسيا على سبيل المثال، لوجدنا أن نظام الحزب الواحد والبروقراطية المتعقلّة به قد تمّ استبدالها بنظام رأسمالي شرس على حساب القيم الانسانية واقتصاد منظّم حكيم. فروسيا اليوم رغم كل ما اقترحه المتخصّصون من أهل الاقتصاد والسياسة تبدو وكأنها تتمزّق وهي تتحوّل من النظام الشيوعي لتدخل مرحلة قيام النظام الصناعي الديمقراطي.

فروسيا تضرب لنا أبلغ مثل على التطرّف الرأسمالي وحالة الضياع الذي يخلقه الاندفاع المهووس نحو النظام التجاري الحرّ ودخول أسواقه العالمية. ورغم أن هذا المثل لا ينطبق على عدد كبير من الدول إلاّ انه جدير بالاهتمام وينبغي الامعان في الدرس الذي يلقيه علينا. فقد برهنت التطورات التي حدثت في روسيا ان المطامح المادية إذا لم تحكمها القيم والمثل العليا لا ينتج عنها سوى الفواجع في مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع بالنسبة للعالم الانساني.

فاقتصاديات السوق إذا ما أصبحت ايديولوجية نعتنقها لا بدّ لها أن تشعل نار الصراع وتغذّي منابت الجشع والشره، هذا إن لم تضبطها مبادىء أخلاقية ومثل عليا. وبالاختصار فان قوى السوق والتجارة لوحدها لا يمكنها أن تلهم الناس بانجازات تحقّق لهم أسمى ما يمكن أن تطمح لها النفوس كأفراد وكمجموعات. وأي نظام عالمي قائم على تحقيق الاهداف المادية البحتة نظام لا بدّ له أن يقودنا في نهاية الأمر الى الضياع والخسران. فالمادية في مجتمع العولمة، إن لم تتوفّر لها عناصر الروح والاخلاق، إنما هي ليست سوى هلاك للحضارة الانسانية وإعلان على إفلاسها رغم ما تتمتع به من ثروة ومال. فإذا أردنا أن نؤكّد الأساس الذي تقوم عليه انسانيتنا وجب علينا أن لا نحرم أنفسنا من تلك المبادىء والاحلام وتلك القيم والفضائل التي تغني حياتنا الروحية والفكرية.

وصدق المفكر السياسي السويسري، بيار سانركلانس، حين وصف هذه المرحلة التاريخية ونحن على وشك الدخول الى القرن الواحد والعشرين حين قال: "في الوقت الراهن، نجد أنفسنا في مأزق من الضياع ونحن نقف بين عالم الأمس والغد، وقد فقدنا تلك الأطر الفكرية التي ورثناها من الماضي والتي طالما كانت توفّر في السابق الهداية والرشاد". وسنبقى سجناء هذا المأزق حتى نتمكّن من أن نحدّد من جديد تلك المبادىء السامية العامة والتي يمكنها أن تكون الاساس المتين لقيام نظام عولمي. فمجرّد إقامة نظام إقتصادي أو قيام نظام تجاري عالمي حرّ لن يوفّران لنا أية حلول للمعضلات العولمية التي تواجه مجتمعنا الانساني. من المؤكّد أننا بحاجة الى الرفاهية المادية واقتصاد سليم ناجح، ولكن الأهم من الثراء المادي هو الثراء الروحي والمعنوي. إنها القيم الأبدية والمبادىء الانسانية العامة التي سوف تفوز بدعم كامل من قبل المجموعات البشرية في العالم لإقامة أي نظام جديد قد نتفق عليه.

يتعذّر علينا كأفراد تشغلهم شؤونهم الدنيوية اليومية أو كشعوب تفرّقها المسافات واللغات والسياسات أن نتفق على اتخاذ موقف عالمي موحّد وخاصة فيما يتعلّق بموضوع الأخلاقيات. ولا سبيل للتغلّب على العوائق التي تواجه التفاهم حول الأمور العالمية سوى الرجوع الى المبادىء الأخلاقية التي طوّرت المجتمعات البدائية الى مجتمعات تتمتع بدرجة عالية من الحضارة والرقي. وهذه المبادىء الأخلاقية نجدها على أكمل صورة في مجموعة التعاليم السامية التي جاءت بها الأديان السماوية والتي تمثّل تراثاً فكرياً وروحياً يمتلكها الجنس البشري. فهذا التراث الفكري والروحي الذي نشترك فيه جميعاً قادر على أن يساعدنا على إتخاذ مواقف عالمية مشتركة وأن نجد الحلول العالمية لمعالجة المشكلات التي يواجهها العالم الانساني. وأريد هنا أن أؤكّد لكم بأنني أتحدّث عن الدين ليس من زاوية المؤمن بعقيدة ما فمثل هذا الحديث قد يولّد خلافات مريرة بين أتباع الاديان المختلفة. إني أتحدّث عن الدين كعامل أخرقي يضبط السلوك ويقوّم الأخلاق. إننا في حاجة الى خلق ميثاق أخلاقي نستمدّه من تلك المبادىء الروحية الخالدة التي جاءت به الأديان السماوية. فإذا وجد مثل هذا الميثاق فسوف يمكننا أن نهتدي بمبادئه في مجتمع العولمة ونستطيع تفادي المآسي والفواجع من أمثال كوسوفو والخلاص من العنف الأرعن الذي غزا المدارس وأوساط المراهقين من الشبّان.

يستحيل أن ننكر الصلة الوثيقة بين العنف الذي نشاهده في كوسوفو والعنف الذي ينفجر بين آونة وأخرى في المدارس وأوساط الشباب في دينفر واركانو، والاحداث المتشابهة في اسكتلندا وانكلترا وكندا وفرنسا. وما هذه الاحداث المريعة سوى دليل آخر على ان الانسانية قد فقدت تلك القواعد والمبادىء السامية الخالدة التي تضمن للمجتمع النظام والاستقرار والأمن والسلام. أما الشباب فقد استحالت أحرمهم لتصبح كابوساً مريعاً وتحوّلت أطماحهم الى اليأس وفقدان الأمل.

إن النظم الروحية العظمى والاديان السماوية التي شهدها العم قد بقيت على مرّ الزمان لانها طالما بعثت الالهام في النفوس لتحقيق طبيعتنا الانسانية العليا. فالاديان التي عرفها البشر تشترك كلها في حض الانسان على التحلّي بأسمى الفضائل وتهدينا الى سواء السبيل، ولعلّها دفاعنا الوحيد ضد ما نشاهده من تفكّك المجتمع العالمي وانهيار الصرح الأخلاقي فيه.

فوجهة النظر القائلة بأن القيم والمبادىء الدينية أو الروحية تكبح الغرائز الوضيعة وتحي الأخلاق وتبعث الالهام في النفوس، وجهة النظر هذه قديمة كقدم الدين نفسه. غير انه وفي وقتنا الراهن – أي في عصر العولمة هذا – علينا أن ننظر الى الأمور نظرة جديدة.

فالاتجاه الحثيث الملحّ نحو بناء مجتمع العولمة يخلق سلسلة جديدة من التحديات والفرص. فإذا كنا قد أقمنا "سوق العولمة" فاننا بالمثل في أشدّ الحاجة لإيجاد ميثاق أخلاقي يخدم مجتمع "العولمة" هذا. وسيساعد هذا الميثاق الأخلاقي الشعوب والأمم المختلفة لتجد تآلفاً فيما بينها ليس فقط في المجالات المادية ولكن فيما هو أهم من ذلك وأعني بهذا المجالات الروحية من الأخلاق والفضائل. فالعامل الروحي والخلقي يحدّد سلوك المجتمع الانساني ويحكم تصرفات الفرد والمجتمع.

إن وضع مثل هذا الميثاق الأخلاقي المستقى من القيم والمبادىء الروحية الأصيلة الموجودة في الأديان التي عرفها البشر سيساعد على إقامة عمد الهداية والرشاد لعالم فقد تلك العمد وسوف يوفّر اسلوباً للتعاون والتفاهم. إن الصراعات القائمة وتلك التي سوف تقوم في المستقبل من الممكن حلّها إذا ما عدنا الى تراثنا الروحي الانساني الديني الذي يجمعنا جميعاً على محبة الخالق العظيم والعمل على الخير والمنفعة العامة.

فاذا ما نظرنا الى النظم الروحية التي عرفها الانسان، يتضح لنا ان كل دين يتمتّع بميزاته الخاصة. وبالطبع علينا أن نأخذ هذه الميزات والفوارق في الحسبان. أضف الى ذلك علينا أن لا ننسى ان هناك العديد من النظم الروحية غير الإلهية ساعدت البشر أيضاً على الرقي والتقدّم الأخلاقي. ولعلّ أهم ما نلاحظه في تأمّلنا للاديان الإلهية انها متفقة فيما بينها بالنسبة للأساسيات الأخلاقية والمبادىء الانسانية أكثر مما هي مختلفة ومتميّزة بعضها عن بعض. فكل دين من الأديان يحثّ الانسان على معرفة ذاته ويعلق على أصله ومصيره وعلاقته الروحية التي لا تنفصم بذلك الاب السماوي الذي يحبنا ويرعانا جميعاً.

فكل دين من الأديان جاء ليهدي البشرية ويسدي لها العون ويواسيها في مسيرتها. ولقد كان ترك الرسل والانبياء أبلغ الأثر عبر التاريخ فشحذوا الهمم وبعثوا الأمل في نفوس البشر ليحل محل اليأس.

وها نحن نقف الآن على أعتاب ألفية جديدة ونجد أنفسنا في حاجة لكي نعود الى الجذور التي صنعت أخلاقياتنا كلها. فإذا كنا من المؤمنين باللّه أو كنا من غير المؤمنين لا بدّ لنا جميعاً أن نعترف بفضل الاديان السماوية على الانسان والمجتمع وبالقيم والمثل التي جاءت بها عبر آلاف السنين. وعلى سبيل المثال أكدّ لي صديقي الرئيس فرنسوا ميتران في أحاديثي الشخصية معه، وهو ما أكّده أيضاً في مذكراته، بأنه يؤمن بالعلمانية البحتة إلاً انه وجدت أعظم الهداية في قراءاته التي عرّفته على الآثار الكتابية الدينية والروحية كأمثال القديس توما الأغنوطي والقديسة تيريزا الاقالية.

محنهما استحوذت العلمانية على نفوس البشر وعقولهم في عصرنا الراهن، فانه من غير المعقول أن نتجاهل ما كان للدين وقيمه المثلى من أثر بالغ في ترقي الانسان وتقدّمه، وحتى بالنسبة لأولئك الذين لا يعترفون بدين أو إيمان. ورغم ان تاريخ الاديان لا يخلو من أعمال أتى بها أتباعها تخالف تلك المبادىء والقيم التي نادت بها، فان الحضارة العلمانية ارتكبت أخطاء عظمى مثلها مثل الأديان وشنّت حروباً رهيبة باسم "الانسانية" كالحربين العالميتين الأولى والثانية. ويبقى الدين الصحيح والنظم الروحية السامية عاملاً أساسياً في إصلاح العالم وترقية البشر. فالخطر العظيم الذي يهدّد أتباع الأديان كافة والانسانية بصورة خاصة ليس الدين الصحيح بل تلك التفاسير التي يأتي بها البشر يشرحون به كلمات اللّه والاثار الدينية المقدسة من الآيات والاحكام الإلهية.

ولعلّه من الجدير بنا أن نتذكّر بان مثل هذه التفاسير الخاطئة قد جلبت على الانسانية الدمار والخراب والهلاك والموت ونتج عنها حروب رهيبة وصراعات مريرة خلقت العداوة والبغضاء حتى فيما بين أبناء المذهب الواحد والمؤمنين بكتاب واحد. ولا يجب أن ننسى بان الدين الصحيح والايمان باللّه إيماناً صادقاً لا يمكن إلاّ أن يؤدّي الى ما فيه خير الناس جميعاً من مؤمنين وغير مؤمنين، وإنه أنجع وسيلة لحل أي خلاف أو صراع يقوم بالناس. وبالتالي يكون سبباً للخلاف والصراع إذا ما نادى كل مؤمن بدين بأنه الوحيد الذي يسير على طريق الحق دون غيره من المؤمنين بأديان أخرى. فعلينا نحن المؤمنين أن نعترف بان الخالق العظيم أراد لنا طرقاً متعدّدة المسالك للوصول اليه وان هدفنا جميعاً هو تحقيق من أراده اللّه لنا من عزّ وشرف وخير وأن نسعى أن نتّحد في ما نختلف فيه فنحقّق مبدأ الوحدة في الاختلاف والتعدّد ليكون الهدف خلق مجتمع انساني متحضّر متمدّن دائم التقدّم. لهذا يبدو لي ان وضع الميثاق الاخلاقي الذي ذكرته ضرورة رئيسة لحل المشكلات العويصة والصراعات المزمنة، لانه إذا ما وضعنا مجموعة من القيم والمبادىء التي نتّفق عليها جميعاً يصبح في الامكان قيام حوار بنّاء فيما بيننا قائم أساساً على أسس ثابتة هي القيم والمبادىء الروحية التي نتشارك فيه فنحترم ما يفرّقنا ونعمل على ما يوحّدنا في هدى ذلك "الميثاق الأخلاقي" وهناك أمثلة على امكانية ذلك في القانون الوصفي الذي يستقي روحه ومبادئه من القيم والمبادىء الروحية والدينية، فنحن على اختلاف مذاهبنا نحترم القانون الوصفي لانه يمثّل قيماً نشترك في الايمان بها.

في أوج الحرب الباردة انشغل الغرب بصراعه مع ما أسماه "بامبراطورية الشرّ" وعكف على محاربة الشيوعية بازلاً في ذلك كل طاقاته المادية والمعنوية ونسى في تلك المعمعة أن يحرص على المحافظة على قيمه الأصيلة. وتناسى الغرب تلك القيم التي كانت أساساً لحضارته. فما ان انتهت الحرب الباردة وجد الغرب نفسه في حالة فراغ هائل يبحث عن قيم ومبادىء يمكن لها أن تسد ذلك الفراغ فيوحّد الصفوف لكي يبدأ مرحلة جديدة من مراحل النمو والتقدّم. ونسبة لغياب تلك القيم والمبادىء العتيقة لم يجد الغرب أمامه من وسيلة يهتدي بها في هذه المرحلة الجديدة من مراحل نموّه وتقدّمه إلاّ قيم التجارة الحرّة والمبادىء المادية التي تسيطر على عالم المال والاقتصاد. فاذا بنا الآن نسعى لبناء حضارة انسانية جديدة ولكن دون وجود تلك المجموعة من القيم والمبادىء الروحية التي طالما كانت سبباً لتقدّم الانسان وازدهاره. ونتيجة ذلك وجدنا أنفسنا كما وصفنا بيار ساناركلنس باننا في مأزق من الضياع. فكيف يمكننا من الخروج من هذا المأزق وكيف يمكننا أن نحدّ من تطرّف إيديولوجية التجارة الحرّة والسوق العالمية وإقتصاد العولمة. ولعل الوقت آن لكي تقوم الامم المتحدة بالعمل على تأسيس هيئة خاصة مثلها مثل تلك الهيئات الأخرى كاليونيسكو واليونيسف وغيرها. لعل الوقت قد آن لتؤسّس الامم المتحدة منبراً عالمياً يستقطب المفكرين والفلاسفة ورجال الدين وعلمائه والشعراء والفنانين يمثلون كل الاتجاهات وكل الدول صغيرها وكبيرها. ويتشاور أعضاء هذا المنبر لإيجاد اتفاق حول إقامة "ميثاق أخلاقي عولمي". أما نشاطات هذا المنتدى فيمكن تلخيصها كما يلي :

أولاً: إجراء البحوث العلمية والدراسات المتشعبة وجمع المعلومات الشاملة أكانت تلك المعلومات مستقاة من النظم الدينية والعلوم الاجتماعية. ولعل أهم وظيفة لهذا المنتدى هو الوصول الى وحدة الرؤيا في وضع "الميثاق الأخلاقي" وهو الميثاق الذي سوف يحدّد لنا القيم الخالدة من جديد وباسلوب جديد فيجيب على الاسئلة التالية: ماهي العدالة، ما هو السلام والامن والاستقرار، وما هي العولمة...

ثانياً: أن يقوم هذا النتدى باعلام الدول والامم عن طريق الامم المتحدة وذلك بواسطة تقارير متواصلة عن أبحاثه وأن يقدّم مقتراحاته بشأن المواضيع التي يدرسها. ومن المفيد أيضاً أن يقوم هذا المنبر بدراسة الأزمات التي تواجه مجتمع العصر فتجد لها الحلول حتى نتفادى دورة جديدة من الصراع والمجازر.

ثالثاً: أن يقوم هذا المنتدى باجراء أوسع المشاورات مع الهيئات الاقليمية والدولية المتخصّصة بمصالح الشعوب والامم. فعلى سبيل المثال نجد اننا خلقنا نتيجة ما حدث في يوغوسلافيا والروندا محكمة عليا لمحاكمة مجرمي الحرب المسؤولين عن الابادة الجماعية ولقد بدأت تلك المحكمة أعمالها وأدانت عدداً من الذين اتهموا بتلك الجرائم. ولكن لا تزال هذه المحكمة مسألة لم يتّفق عليها الجميع، وليس لها من دستور متّفق عليه يهديها في أعمالها، وتبقى أحكام قضاتها رهناً بضمائرهم ونظرتهم الخاصة. فاقامة هذا المنبر سوف تمنح هذه المحكمة شرعية مستقاة من اتفاق يبرمه هذا المنبر ويشرح بنوده ويقرّر دستور العمل والتنفيذ.

فاقامة حوار بنّاء على أوسع مستوى وإجراء الاستشارات الكاملة على كافة الاصعدة سوف يحقّق اتفاقاً عاماً ويقضي على النزاع والخصام. ورغم ان قرارات مثل هذا المنتدى لن تكون ملزمة، يبقى هذا المنبر هيئة لها سلطتها الأخلاقية وتتمتع بالنفوذ القائم على المبادىء الانسانية العليا والقيم الروحية المثلى. وهكذا يمكن لهذا المنبر أن يبرّر أي تدخل من قبل المجتمع العالمي لفض أي اعتداء يستهدف أي مجموعة من الناس من المدنيين العزّل من السلاح والدفاع عن الابرياء والضعفاء. وهكذا يمكن لهذا المنبر أن يعطي صفة شرعية لأي تدخّل تقوم به المجموعة الدولية وتصبح التدخلات مثل الصومال وهايتي والبوصنة والآن كوسوفو تدخلاً يعتمد أساساً على أخلاقية اعتمدناها في "ميثاقنا"، ويقوم هذا المنتدى بوضع الأسس والمبادىء التي بموجبها يمكن تنفيذ مثل هذه التدخلات.