Back to Lectures

مؤتمر واشنطن الإغترابي

1998-06-25

الكتائب اللبنانية

مؤتمر واشنطن الإغترابي
بتاريخ، 25 الى 28 حزيران ‏1998‏-‏06‏-‏19

المقدســات والأســس

أميـن الجميّــل

أحبائي،
كم أنا سعيد أن ألتقي بكم جميعاً. اني أحيي كل فرد منكم.
أمنيتي أن يكون هذا اللقاء – المؤتمر فرصة لمراجعة أوضاع وطننا وحزبنا في هذه الظروف الصعبة والسريعة التطور!
لقد حان الوقت لنتوقف معاً في لحظة تأمل، لنسأل أنفسنا ما هو دورنا نحن الذين لا نزال نؤمن بالرسالة الوطنية الصادقة التي نادت بها الكتائب طوال أكثر من ستين سنة ونيف من حياتها، رغم ما عصف بها من الأعاصير والعواصف وما نزل بها من فواجع ومآسي،
ورغم ما حل بصفها من تفتت وتشر ذم، وما تكسّر من أجنحة هذا النسر الذي كان يسود يوماً أجواء لبنان، ورغم ما تفاقم من صراعات داخلية كادت تقضي على ما تبقّى لدينا من الروح والحضور والمصداقية.
ورغم أن لبنان اليوم في ضياع، وأن مؤسساته الوطنية والدستورية والحزبية قد أصابها الشلل، وأن حزبنا الذي طالما عهدناه حزب الوحدة والاتحاد أصابته نكسة كادت تودي بحياته، رغم كل هذا وأمام تحديات الظروف الراهنة التي يمر بها وطننا اليوم، صمدنا ولا يزال الأمل يساورنا. وإني بفضل ما أشعر به عندكم من إيمان وقناعة، واستعداد للمزيد من البذل والعطاء، أتطلّع الى يوم قريب تلتئم فيه الجراح ويتوحد الصف وتتجدد الرؤى والقوى. والكتائب التي كانت منذ الثلاثينات ركيزة من ركائز الاستقلال، لا بد لها أن تبقى ركيزة من ركائز لبنان الحديث، لبنان المستقبل، لبنان الرائد في حضارة الغد وأحد دعائم المجتمع الإنساني الجديد.
* * *
منذ نشأتها ما برحت الكتائب تناضل من أجل لبنان حر مستقل! في 21 تشرين الثاني 1937، كانت أول معمودية الدم، فجرح وسجن الرئيس المؤسس، بيار الجميل، والعديد من الرفاق الأبطال، في أول صدام مع قوى الانتداب الفرنسي، بينما لم تمر سنة واحدة على تأسيس الحزب. وبقي الحزب، منذ هذه اللحظة، يناضل بدون هوادة للدفاع عن سيادة لبنان والقيم التي يجسدها. فنحن لا ننسى، ولبنان لا ينسى، أين كانت الكتائب وما كان دورها عام 1943 في معركة الاستقلال، وعام 1958 في معركة الكرامة، وعام 1976 في معركة السيادة وما تلا ذلك من أعوام الصراع الدامي حيث شنّ الآخرون حروبهم على بعضهم البعض على الأرض اللبنانية فأضحى شعبنا وقود تلك الحروب وأرض وطننا مسرحاً دامياً متفجراً لها. كما ناضل حزبنا من أجل العدالة الاجتماعية ولاحلال إنماء متوازن يشمل كل المناطق اللبنانية، ومن أجل تحديث الإدارة وتحصين الوطن.
ولعل أخطر ما واجه لبنان طيلة هذه السنوات الدعوات الإيديولوجية التي مزقت المنطقة، وقيام الحركات الأصولية التي أربكت مجتمعاتها، ناهيك عن آثار الحروب المدمّرة التي اجتاحت الشرق الأوسط والتي لم يكن في مقدور لبنان أن يقف بمنأى عنها. منها، الحروب العربية الإسرائيلية عام 1948، وعام 1956، وعام 1967، عام 1973، والحربين في الخليج العربي، والحروب على أرض لبنان منذ نهاية الستينات حتى تاريخنا هذا. كان لكل ذلك آثار هزّت كيان لبنان وتحوّلت أرضه مسرحاً لصراعات مختلفة الأنواع متعددة الأهداف اتحدت كلها لاستهداف وطننا وشعبنا وحضارتنا. في كل هذه المراحل، كانت الكتائب حاضرة، وفي الخطوط الأمامية، للذود عن مصالح الوطن العليا، والدفاع عن استقلاله وسيادته.
أما تغييبها، في الآونة الأخيرة، فقد أحدث فراغا على الساحة اللبنانية، بتنا نشعر به جميعا وأفقد لبنان مناعة هو بأمس الحاجة إليها.
فالتجارب الراهنة أكدت أن حزبنا ليس هو طفرة أو رقما زائدا في المعادلة اللبنانية، أو لا فرق إن كان أو لم يكن. وكثيرة هي المنظمات التي ولدت في الثلاثينات، قبل ولادة الكتائب او بعدها، لكنها لم تعش، وغيابها لم يترك أي فراغ.
ذلك لان الكتائب تجسد ذلك التيار الوطني التاريخي الذي ساهم في إنشاء لبنان الحديث. ثم أضحت المعبر عنه، كتنظيم، وفكر سياسي، واستراتيجية، وقيادة شجاعة وحكيمة في آن معا. كان الرئيس المؤسس يعرف متى يجب أن يقال "نعم" ومتى يجب ان يقال "لا" في سياق استراتيجية ترمي الى ترسيخ الاقتناع بوجود لبنان كوطن للحريات.
ولا مرة خسرت الكتائب معركة وطنية،
ولا مرة ورطت الكتائب التيار الذي تمثله في حرب خاسرة أو هزيمة مخزية،
كما ولا مرة سكرت الكتائب بخمرة النصر وتجاوزت حد التوازن الوطني وركبت موجة التطرف حتى الانتحار.
أما متى بدأ التيار اللبناني التاريخي يخسر ويتراجع ويتهافت ويدخل في مغامرات انتحارية، فقد بدأ ذلك مع التشرذم في صفوفنا ومنذ بدأت المصالح والأهواء الشخصية تطغي على مناقبيتنا المعهودة. مما أدى الى ضرب الكتائب من الداخل عبر تلك العملية التي سميت "انتفاضة 12 آذار". ومنذ ذلك الحين والانتفاضات تتوالى، كل واحدة تلغي الأخرى حتى كانت تلك الهزيمة التي نفذت من خلالها المؤامرة على الوطن. وكانت التسويات والاتفاقات والمعاهدات التي خلخلت أسس البنيان الوطني برمته.
إنما الكتائب تراث فكري ووطني وسياسي، وقد صنع هذا التراث وحدد معالمه العملاق الذي اسمه بيار الجميل. فإذا ضعفت الكتائب وغابت لفترة، تبقى راسخة في ضمير وفكر أعضائها. حاضرة لتنبعث من جديد، من أجل أن تكمل الطريق الذي رسمه لها مؤسسها.
أما كيف نعيد للكتائب دورها التاريخي وحضورها، فهو السؤال الذي لم يتأمن الجواب عنه بعد. فالأجوبة المتعددة هي دليل انقسام إن لم يكن دليل تعدد مطامع ومشاريع شخصية، كل واحدة منها يدعي إنها هي الكتائب، أو إنها صاحبة مشروع كتائب جديدة. وفي أي حال، والواقع أن لا أحد حتى الآن استطاع أن يعيد للكتائب حضورها ودورها. فلماذا المكابرة؟
أنتهز مناسبة هذا اللقاء العائلي، لأتوجه بهذا النداء داعيا الى الكف عن كل المحاولات الانفرادية. فالكتائب تخص الجميع، لا هذا الفريق وحده أو ذاك، لا القيادة الحالية ولا القيادات التي تعارضها أو تطعن في شرعيتها.
إن الكتائب، في أي حال من الأحوال، ليست سلطة فقط أو قيادات فقط، بل هي أيضا فكر وطني ونهج وسياسة وبرنامج مرحلي يتناول، في الدرجة الأولى، أمن لبنان الخارجي وسط هذه الحرب الطويلة المزمنة على مستوى المنطقة العربية والشرق الأوسطية وكل الحروب الفرعية المتصلة بها. فما هو موقع لبنان على خريطة هذه الصراعات المنعكسة على أوضاعه الداخلية؟ يتوقف أمن لبنان الخارجي والداخلي في الجواب على هذا السؤال، ويتوقف عليه أيضا استقلاله وسيادته فضلا عن قيام الدولة السيدة في الداخل وعلاقاتها مع الخارج. وأعتقد أن دور الكتائب هو دائما هذا الدور الوطني بامتياز، يتبدل في وسائله لكن جوهره لا يتبدل ولا يتغير. فلماذا لا نلتقي من أجل التعاون على وضع هذه الوثيقة التاريخية، بل هذا التعاقد الجديد بين الكتائبيين، القدماء والجدد، المقيمين والمغتربين؟!
أما مسائل السلطة ولمن تكون، فمسألة تعالج في مرحلة لاحقة. ولا معنى لهذه السلطة، وفي يد من يجب أن تكون، إن لم تكن الكتائب الرؤية التاريخية بالنسبة الى كينونة لبنان كوطن مسيحيين ومسلمين يتساوون في الحقوق والواجبات، دون إقصاء أو قهر، ووطن حريات تأتي في طليعتها حرية المعتقد.
والأهم من كل ذلك، ان الكتائب هي قبل كل شيء مناقبية وخلقية وجملة قيم يختصرها شعارها الثابت الذي، وإن كان مكتوبا على الواجهات، إلا أن مضامينه باتت منسية فضلا عن سؤ تفسير ذلك الشعار والاجتهادات المغرضة التي ألصقت به. ولعله من الواجب علينا نحن المجتمعين هنا لنتذكر معا المعاني العميقة لشعار الكتائب "الله، العائلة، الوطن"، ولنتأمل فيما يمثله هذا الشعار من قيم ورؤى.
الله،
فلنبدأ بكلمة اللّه. بالنسبة لنا، إن لكلمة الله صدى ومعنى يتصل بعمق أعماق أرواحنا وكياننا كأفراد. فبلادنا منذ الأزل كانت مهبط الرسالات الإلهية كلّها، وأساطيرنا كلها تحكي عن آيات الله ومعجزاته، أما تاريخنا فهو تاريخ رسله وأنبيائه، فالهداية السماوية التي جاءت بها التوراة نجدها في الإنجيل المقدس والقرآن الكريم، وتتحد الرسالات كلها في خلق ثقافة روحية واحدة صاغها الخالق العظيم ويشترك فيها كل من كان يؤمن بالله ويعيش على أرضنا المقدسة. فالإيمان بالله المجرّد من كل تعصّب وتطرّف هو حجر الزاوية في بناء الصرح الوطني والاجتماعي وعليه أن يكون أساس كل عمل سياسي. تفهم آباء الحزب ومؤسسوه الأوائل هذه الحقيقة، وكانوا من المؤمنين الصادقين وتنبعث رؤيتهم من عقيدة راسخة بأن الله كالوطن للجميع. وهو الصخرة التي تقوم عليها القيم والمثل. فكرامة الإنسان تؤكدها كافة الرسالات على اختلاف أنواعها. فما أحوجنا اليوم في لبنان لصون كرامة الإنسان ومنحه حقه من العدالة والإنصاف.
فالعودة الى تلك الصخرة القوية، صخرة الإيمان بالله، تمثل لنا مصدر القوة والنجاح. وفي هذه العودة أيضاً حل للعديد من المشكلات التي باتت تهدد كل مقومات الحياة المعاصرة، فالانهيار الخلقي والانحلال الاجتماعي الذي يعاني منه عالم اليوم، وقد أصابنا منه ما لا يمكن تجاهله، لا بد من مجابهته بتجدد هذا الأيمان، فهو الرد الوحيد على دعوات الانحلال التي تنادي بها الإيديولوجية المادية التي أقامت أصنامها في نفوس الناس وسعت الى تحويل مسيرة العولمة من هدفها السامي لوحدة البشر والتئام شملهم وتحصين وطنهم، الى الانزلاق في هوة الجشع والطمع. في مثل هذه الأحوال تندثر الحقيقة تحت مظاهر التهريج وإثارة الغرائز، فيفقد الإنسان إنسانيته فيدمّر نفسه، ويهدم مجتمعه، ويقوض أساس كيانه الروحي كله، ومعه كيان الوطن الذي أتمن عليه. لقد أدرك مؤسسو هذا الحزب ما سوف تؤول إليه الأمور في مستقبل الأيام وكانت لهم بصيرة مؤمنة دلّتهم على طريق الخلاص في أحلك الساعات. وفهم آباؤنا أيضاً إن الرد الوحيد على انحلال المجتمع وتفشي الأصولية البغيضة والتعصبات العمياء هو الإيمان الخالص بالله ليرفع مستوى المسؤوليات ويسمو بالأخلاق والقيم. فمن كان يؤمن بالله مسلماً كان أم مسيحياً، لا خيار له إلا ان يقيم العدل والإنصاف بين الناس، ويضمن لهم جميعاً كرامتهم وحقوقهم كاملة لا يفرّق بين أحد منهم. ومن هنا ينطلق خلاص لبنان.
ورسالتنا هذه ليست في لبنان فقط، بل هي رسالتنا في أوطان الاغتراب أيضا. فالكتائبي المغترب يحمل رسالة لا تختلف عما يحملها إخوانه وأخواته في لبنان. إن رسالتنا رسالة عالمية النطاق تميزنا عن غيرنا من التنظيمات والدعوات، وتميز حضورنا في أي مجتمع استضافنا، أو أية أرض حللنا بها.

* * *

العائلة
أما الكلمة الثانية من الشعار، هي كلمة "العائلة". وهذا العنصر هو المتمم لفلسفة الكتائب، ويعطي البعد الإنساني لها. العائلة هي حجر الزاوية لكل وطن ولكل مجتمع وهي المدرسة الأولى التي نتلقى فيها دروس الوطنية الحقيقية. وفي رحاب العائلة أيضاً نرضع لبن العرفان، فنعرف معنى التعايش ومعنى المشاركة، ومعنى التسامح. وفي العائلة أيضاً نتعلّم كي نتعايش في وطن واحد وإن اختلفت الآراء والطبائع. ونتعلّم كيف نجري الحوار البنّاء لإزالة الفرقة والاقتسام. العائلة هي رمز خالد يمثّل لنا المحبة الخالصة، ويولد كل هذا شعور الولاء والإخلاص العائلي. ولأن العائلة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالوطن، يصبح الوطن عندئذ العائلة الواسعة التي ينتمي إليها كل مواطن. وكما إننا في العائلة الواحدة نحتوي أفراداً ذوي اتجاهات ومواقف متباينة، كذلك يضم الوطن أفراداً من مختلفي المذاهب والاتجاهات. لكن علينا جميعاً أن ندين بولاء أوسع من الولاء العائلي وهو الولاء للوطن الذي يجب أن يحتوينا جميعاً ويتمم الولاء العائلي.
شهدت العقود الخمسة الماضية أخطر كارثة واجهها الإنسان في العصر الحديث وخاصة في الدول الصناعية الكبرى، ألا وهي انهيار النظام العائلي وتفتت الأسرة، فضعف الكيان العائلي وفقد الوالدان مركزهما كمشرفين على تربية أولادهم. قام الصراع المرير بين الرجل والمرأة في إطار العائلة الواحدة، مما قوّض صرح النظام الاجتماعي ككل فانتشرت الجرائم التي يرتكبها الأحداث، وتفاقمت مشكلات تعاطي المخدرات بحيث بدأ الأطفال في سن مبكرة يتعاطون أخطر أنواع المخدرات وأفتكها أثراً، بالإضافة الى الانزلاق المبكر في هوة الملذات الجنسية والاندفاع وراء شهوات لا حد لها ولا حصر تقود الى الشذوذ والعنف والموت، وإهدار لكرامة الإنسان. تصلنا الأنباء من أكثر البلدان حضارة لنسمع أن أطفالاً في الحادية عشرة من العمر يقترفون جرائم القتل وكأن الأمر ملهاة لا تعني أحد، فيقتل هؤلاء أقرانهم وزملاءهم ويتساءل عندئذ الكل "كيف حدث هذا؟" إن الجواب على هذا السؤال سهل بسيط، وهو: "انظروا الى النظام العائلي عندكم تجدون الجواب!".
إن حكماء الحزب ومؤسسوه أدركوا منذ القدم كل هذه العوامل والمخاطر، فأعاروا العائلة وبالتالي الإنسان اللبناني الأهمية التي يستحقها. إن العائلة والإنسان هما على صورة الوطن. وكانت خشيتهم أن لا ينتهي الأمر بنا كما هو الحال في بعض البلدان الصناعية الكبرى، فعملوا من أجل تلافي الوقوع فريسة دعوات الانحلال والتفكك. ؟إن صيانة العائلة بمفهومها الأصيل أمضى سلاح نواجه به تحديات المذاهب المادية البحتة وقوى الشر والدمار التي انطلقت من عقالها لتعيث في الأرض فساداً نتيجة انهيار النظام الأخلاقي.
إن العائلة اللبنانية، بمفهوم مؤسسي الحزب، هي نقيض العائلة المنحلة في بعض المجتمعات الأخرى. لقد كانت الحرب التي عصفت بلبنان قاسية في نتائجها وما خلّفته من دمار وخراب، ولعل أخطر ما نتج عن هذه الحرب هو زعزعة الكيان العائلي والتشكيك في القيم والمثل العائلية التي طالما كانت درعاً واقياً يحمي للوطن وحدته وسلامته.
إن دور الكتائب الآن هو أن نعمل من أجل تحقيق شعارها الاصيل. وهكذا يكون لنا انطلاقة جديدة ودور مؤثر في محيطنا وفي المجتمعات التي نتفاعل معها، في لبنان والمهجر. لم تعد رسالة الكتائب رسالة منغلقة على نفسها، ومحصورة في إطار جغرافي ضيق. إن رسالتنا جميعاً كلبنانيين أصبحت اليوم رسالة كونية. وهذه هي ميزة الإنسان اللبناني كما تراه الكتائب. صمد الشعب اللبناني الأصيل،بفضل الرابط العائلي رغم قساوة المحنة، أمام أقسى تيار عرفه تاريخنا الطويل، وفاز بالحياة. فشعب هذا شأنه لا يمكن أن يموت. ولا يمكن أن يفنى ولا يمكن أن يستعبد. فهذا هو سر صمودنا بوجه كل التحديات والأعاصير والعواصف.
* * *
الوطن
أما كلمة الوطن، فلها مدلول خاص في عرفنا الكتائبي لا يختلف معنا فيه السواد الأعظم من مواطنينا الى أية فئة أو طائفة انتموا. فلم يكن الوطن بالنسبة لنا رقعة جغرافية وحدوداً دولية، ولا علماً نرفعه أو نشيداً نغنّيه. لقد كان الوطن لنا إرثا لا يثمّن، وكان مجموعة من الرموز الخالدة اتصلت بالقيم والمبادئ التي ترمز إليها جبالنا الشامخة الني طالما كانت ملجأ لكل مضطهد، حيث التقت على قمم تلك الجبال الأديان والمذاهب، والأعراق والأجناس، وخرجت منه حضارة الحرف عبر العالم، وربطت لبنان الى الأبد بالعالم الواسع المترامي الأطراف. كان لبنان مركزاً لالتقاء الحضارات وتبادل المنافع بين الأمم والشعوب مما جعله أيضاً بلداً يتمتع الفرد فيه بحرية العقيدة مهما كان لونها، وبحرية العمل السياسي المشروع مهما كانت مذاهبه، وأصبح لبنان بمرور العصور والأزمان مختبراً للتعايش الكريم بين مختلف المذاهب السياسية والدينية والاجتماعية. فوطننا الذي نحمل اسمه بكل فخر واعتزاز، كان فاعلا مؤثرا على صغر حجمه وله أثار بعيدة المدى، لمعت في كل الأقطار ولمست قلب العربي وكيانه. ويكفي أن نذكر على سبيل المثال إنجازات مواطنينا أمثال بشاره تقلا، مؤسس الأهرام ورائد الثقافة العربية الحديثة، وجبران خليل جبران صاحب الرسالة الكونية التي انتشرت في كل أقطار العالم.
فهم مؤسسو الحزب هذه الحقائق فرسموا لوطنهم دوراً حضارياً طليعياً، يميز لبنان عن غيره من الكيانات، ويضمن ديمومة الوطن وخلاص شعبه. وفي خضم التطورات الخطيرة التي تهدد مصيرنا، لا خلاص لنا إلا إذا اخترقنا الضباب الذي يطمس الحقيقة ويشوهها. والعودة الى الجذور هي الضامنة لتجاوز المحنة والانتصار على المؤامرة.
إن حزبنا ناضل من أجل لبنان هذا؛ لبنان الإنسان، لبنان الدور الفذ في محيطه وفي العالم بأسره. منذ نشأته، وخاصة منذ الاستقلال، ناضل حزبنا من أجل توطيد وحدة الوطن، أرضاً وشعباً ومن أجل ترسيخ الديمقراطية وروح الالفة والتعاضد فيه. ناضل من أجل المساواة والعدالة الإجماعية، ومن أجل الإنماء المتوازن.
ناضل من أجل وطن منفتح على العالم العربي، وهو جزء لا يتجزأ منه، يتفاعل معه ويدافع عن قضاياه.
ناضل من أجل أطيب العلاقات مع سوريا، علاقات أرادها دائماً متكافئة، من الند للند، تحفظ سيادة واستقلال ومصالح وخصوصية وكرامة كيلا البلدين.
دفع الحزب من أجل خياراته الوطنية هذه، تضحيات جمة واستشهد في سبيلها الآلاف من الشهداء. وما يزال هذا خيارنا الوطني، نتمسك به لانه خيار الحق والمستقبل.
* * *
إن لبنان كما ذكرت، عليه أن يكون صاحب دور فاعل في محيطه. والخطير في الأمر أن هذا الدور بات معطلا. فبينما تدور في رحاب المنطقة أخطر مفاوضات لتقرير المصير بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط لا سيما لبنان، نرى وطننا بمعزل عن هذه المفاوضات، دوره معطل وإرادته مسلوبة ومصيره غير معلوم. هذا ما رفضته الكتائب دوماً ولا مناص من أن تعود الى الحلبة السياسية تأدية لدورها التقليدي ألا وهو الدفاع عن الحق اللبناني.
ولعلها جريمة لا تغتفر إن نحن غرقنا في متاهات الفرقة والانقسام بدلا من استعادة المبادرة الوطنية بالتعاون مع الوطنيين المخلصين لنسير معا في الكفاح لإنقاذ الوطن.
أين وطننا اليوم من هذه الرؤية؟ إنه في حالة معاناة قصوى رغم ما يدور فيه من محاولات الإعمار وإعادة البناء. نخشى أن يكون هذا الإعمار أعمار للحجر على حساب الانسان والمؤسسات والمستقبل. إنه لا يكفي أن نشيد الصروح والأبنية ونقيم المشاريع الضخمة، إن الأهم من كل ذلك هو أن نبني الإنسان اللبناني ونعمل كل ما في وسعنا لدعم صموده وإنماء طموحه في هذه المعاناة التي يتسأل فيها كل لبناني عن مصير الوطن ومستقبل الإنسان فيه. فالسؤال الذي يتبادر الى الذهن: لمصلحة من كل هذا الإعمار والإنفاق؟ الإعمار في نظرنا هو التئام شمل العائلة اللبنانية وتعزيز قدرات الشعب، كل الشعب من كل الفئات وفي كل المناطق. إن أقصى ما أخشاه هو أن يرهن مصير الوطن لاعتبارات اقتصادية وسياسية لا علاقة لها أصلا بديمومة الوطن وبقائه. فيرهق الشعب لا سيما الطبقة الفقيرة والمتوسطة بديون تحطم آمالهم للفوز بحياة كريمة تضمن للجميع العدل والمساواة.
لبنان على موعد من المستقبل. دعوتنا الى اللبنانيين جميعاً، كتائبيين ومواطنين، هي دعوة الاخوة ودعوة التصافي ونسيان الأذى. لقد مررنا جميعاً بأقسى التجارب وقد اختلطت دماؤنا على تربة الوطن العزيز واتحدنا حين داهمنا الموت والاستشهاد فما أجدر بنا اليوم أن نتّحد حين ينادينا المستقبل الزاهر العظيم، إن شعبنا مؤهل بما له من إنجازات في الوطن وفي ديار الاغتراب كلها أن يكون رائداً من روّاد الحضارة الإنسانية الجديدة التي سوف تولد رغم كل ما يحيط بالعالم من غيوم وظلام.
إن خلاص لبنان وخلاص الإنسان اللبناني هو في العودة الى المبادئ والقيم الأصيلة التي بشر بها قدامى الكتائب، وكانوا أكبر فلاسفة وأصفاهم. إن التجارب أثبتت أن هذه المبادئ هي الضامن الوحيد لاحقاق الحق، ودرء الشر، وإقامة العدل وتحقيق المساواة في الفرص والواجبات. وهي المدخل الأقرب من أجل جمع شمل الكتائب وتوحيد الصفوف.
شعار الكتائب "الله، الوطن، العائلة" شعار صادق خبرناه منذ تأسس هذا الحزب، نجحنا وحقّقنا وحقق الوطن والإنسان فيه، الكثير حين كنا ملتزمين بمبادئه، منفذين روحه قولاً وعملاً، وخسرنا كثيراً في كل مرة تناسينا فيها هذا الشعار والمعاني الخالدة المنبثقة من كلماته الخالدة الثلاث. لذلك كلامي هذا لا ينطلق من منطق التنظير المجرد، بل ينبع من قناعة راسخة أثبتت التجربة الوطنية والحزبية صحتها وجدواها.
حملت الكتائب اللبنانية هذا الشعار لتخدم به لبنان. ولا أظنّني مبالغاً إذا قلت ان هذا الشعار هو أيضاً شعار الخلاص لعالم تفاقم فيه الظلم والتعسف والاستعباد.
في هذه المرحلة الخطيرة الدقيقة من تاريخنا أتوجه الى شبابنا فأدعوهم دعوة صادقة أن يكونوا كما كان أسلافهم ضمير هذا الحزب وقلبه النابض، ومصدر عنفوانه وقوته وحيويته. نبت هذا الحزب في قلب مجموعة من الشباب، فناضل هؤلاء عبر السنين لتأسيسه ودعمه، واقتفى أثرهم جيل بعد جيل حمل الأمانة وقام بالرسالة ونفذ العهد. فيا شباب الكتائب أتوجه إليكم اليوم داعيا إياكم الى الالتفاف حول شعارنا المقدس والى ضم الصفوف وتوحيد الرؤى والأفكار، كما أدعوكم الى القيام قومة رجل واحد لتأدية دورنا التاريخي في الذود عن حمى لبنان وفي دفع حركة الإصلاح والانقاذ، وفي الدفاع عن الكرامة الوطنية وضمان الحق اللبناني المسلوب وصيانة حق المستقبل.
أتمنى للمؤتمر كل التوفيق، ونحن معاً يداً واحدة وقلباً واحداً في خدمة الإنسان ولبنان.