Back to Lectures

نقابة المحامين – بيروت

2003-10-17

نقابة المحامين – بيروت
محاضـرات التـدرّج
الجمعة 17 تشرين الأول 2003

حـرب العـراق والشرعيّـة الدوليّـة

اميـن الجميّــل

يسرني ان ألتقي بكم زملاء أعزاء في هذا الصرح، أو في هذا "البيت"، بيتي، بل البيت المثال عن التجربة اللبنانية الحضارية والانسانية. ان نقابة المحامين ليست نقابة مهنية فقط بل أيضاً وخصوصاً مجمع وطني تتجلّى فيه ارادة العيش معاً على المستوى الذي يعطيها كل ابعادها الفكرية والحقوقية. وليست غرابة ان يكون معظم القيادات السياسية والوطنية قد مرّ من هنا، قبل الاستقلال وبعده، كما لو انه الممر الذي لا غنى عنه لاكتساب المعرفة والخبرة في القيادة والريادة وادارة شؤون الناس.

نلتقي مع بداية السنة القضائية وهذه السلسلة من الندوات للمحامين المتدرجين، لنستعرض معاً أحد أهم مواضيع الساعة، عنيت به موضوع حرب العراق، الحرب التي قلبت اللعبة الدولية رأساً على عقب، وأدخلت المنطقة العربية والشرق الأوسطية في مسار لا تزال خواتمه مجهولة، وبخاصة من الجانب الذي يهمّ كل الحقوقيين حيث التداخل يتواصل عميقاً بين الجوانب القانونية، أو الحقوقية، والجوانب الدبلوماسية والعسكرية والانسانية. والحقيقة ان الامر يهم اللبنانيين جميعاً نظراً لانعكاساته على لبنان وأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ناهيك عن أوجه الشبه بين المسألة العراقية والمسألة اللبنانية. فكما في لبنان، كذلك في العراق، طوائف أو أقليات دينية ومذهبية وإتنية، تشارك أو لا تشارك في السلطة والقرار، وكيف يكون التعبير عن هذه المشاركة في السلطة والقرار الوطني، وبخاصة بعد فشل التجارب الداعية الى الصهر والانصهار تأسيساً على ايديولوجيات قاهرة لهذه الاقليات، وبالتالي، ساقطة لا محالة مهما طال عمرها واستبدادها.
اما على الصعيد الشخصي فالموضوع يعنيني كثيراً لانني كنت من جملة الذين حاولوا تفادي الحرب العراقية من خلال الدبلوماسية، ومن خلال بعض العلاقات الشخصية في بعض العواصم العربية والأوروبية، وفي بغداد وواشنطن في نوع خاص.

* * *

وسأتكلّم، أولاً، على الشرعية الدولية وقرار واشنطن باعلان الحرب على العراق، وثم، على الشرعية الدولية والاحتلال الراهن للاراضي العراقية.

الشرعية الدولية وقرار اعلان الحرب

في ما يتعلق بالعنوان الأول، لنتذكّر بدايات النظام الدولي الذي تأسّس في أعقاب الحرب الكونية الثانية. لقد توافقت الدول المعنية عهدئذ على ان تضع أصولاً وآليات لحلّ النزاعات ذات الطابع الدولي والخطير. والغاية كما جاء في المادة الأولى من ميثاق الامم المتحدة: "حماية الاجيال الطالعة من ويلات الحروب". فنصّ الميثاق على "تفادي اللجؤ الى التهديد واستعمال القوة ضد... أي دولة أخرى"، الا بقرار من مجلس الامن الدولي "الذي عليه التثبّت من وجود تهديد للسلام" (المادة 39).
ان هذا التوجّه الذي توافقت عليه عشرات الدول المستقلة، من كبيرة وصغيرة، أسّس لنظام دولي جديد ولشرعة دولية أنيطت واجبات تطبيقها بهيئة الامم المتحدة، ولا سيما بمجلس الامن. فأين موقف واشنطن من هذه الشرعة، أو ما هو مقدار التطابق بين قرار الحرب الذي اتخذه الرئيس جورج دبليو بوش والشرعة المذكورة، أو الى أي مدى احترمت الادارة الاميركية هذه الشرعة الدولية؟

* تجاوز واشنطن للشرعية الدولية.
في واقع الامر، لقد تعمّدت الادارة الاميركية تقديم الاعتبارات الاستراتيجية الوطنية على كل الاعتبارات الاخرى. وكان ذلك تأسيساً على تقرير لمجلس الامن القومي الاميركي تاريخ 17/9/2002 يقول ب"اللجؤ المسبق والوقائي الى القوة إذا دعت الحاجة في مواجهة الدول المارقة التي بامكانها تعريض الامن الدولي للخطر".
وقد عبّر الرئيس جورج دبليو بوش عن هذا التوجّه بقوله: "يجب ان تنفّذ ما تفكر انه صحيح وجيّد. وأن تأخذ القرارات المسندة الى اعتبارات واهداف نبيلة".
إلاّ ان هذا الكلام الرئاسي لا يوضح المعايير التي يجب اعتمادها لمعرفة ما هو جيّد ونبيل الاهداف. فالامر متروك للتقدير الشخصي أو لقراءات ذاتية للاحداث. هذا، فضلاً عن ان نظرية الحرب الوقائية هي مثل النظرية الاخرى التي تتحدث عن الاهداف النبيلة، تخالف شرعة الامم المتحدة في صورة واضحة وصريحة.

ثمة ظروف أميركية ودولية أتاحت لفريق عمل الرئيس بوش، ومعظمهم من الصقور، ان يدفع في اتجاه القرارات المتصلّبة.
فعلى أثر إنفراط عقد الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين، وحلول كارثة 11 ايلول، شعرت الولايات المتحدة بان من واجبها، ومن مصلحتها أيضاً، وبامكانها كذلك ان تتحرّك، وان تقوم بدور الراعي والحامي والضامن للامن الدولي، ولو تطلّب الامر قرارات صعبة، وان أحادية، بغية التصدّي لما أسمته "محور الشرّ"، أي الدول التي تعتبرها تهديداً للامن الاميركي وللسلام العالمي. فكانت الحملة على افغانستان أولاً، ثم الحملة على العراق، أو على نظام صدام حسين في العراق.
أشير في المناسبة الى الزيارة التي قمت بها الى واشنطن في حزيران 2002 واجتماعي بوزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد. لقد توضّحت لي، يومذاك، النيّات الاميركية، بل تأكد لي ان الحملة على العراق آتية. وعبثاً حاولت التنبيه الى هذا الشأن والتحذير منه أو الاستعداد له، وأجريت اتصالات عدة لهذا الغرض مع المسؤولين العرب والعراقيين أنفسهم ولكن من دون طائل.

لقد نشطت الدبلوماسية الاميركية في خلال الأزمة، مدفوعة بتيار فاعل داخل الادارة الاميركية، في محاولة لتأمين الغطاء الدولي لموقف واشنطن. هذا فيما الرئيس جورج بوش يعلن ان اميركا لن تتقيّد بالشرعية الدولية إذا ما عاكست هذه نظرتها الى الحل والى مصلحتها الوطنية. فمن جهة مساع أو ضغوط لكسب التاييد الدولي، ومن جهة أخرى تلويح بالاستقلال عن الامم المتحدة إذا ما أظهرت هذه ممناعة أو إعتراضاً أو تردّداً. فكان القرار 1441 في تشرين الثاني 2002 الذي هو كناية عن تمهيد للعمل العسكري وشرعنته. فبينما طالبت واشنطن بقرار يسمح لها، بشكل آلي، ان تشنّ حرباً على العراق إذا لم تنفذ بغداد موجباتها في الاعلان عن الاسلحة المحظورة وتدميرها في خلال مهلة معيّنة، فان معظم الدول الاعضاء في مجلس الامن، وبقيادة فرنسا والمانيا وروسيا، ظلّت ترفض لواشنطن حق التفرّد باتخاذ قرار الحرب، وان لا بدّ من العودة الى مجلس الامن للتصويت عليه.
وأمام تعذّر الوصول على اصوات أكثرية الاعضاء في المجلس المذكور، وخوفاً من لجؤ احدى الدول الدائمة العضوية الى ممارسة حق النقض، بدأت إدارة الرئيس بوش تعدّ العدّة لتجاوز مجلس الامن الدولي تأسيساً على نظرية الحرب الوقائية وعلى تقدير الولايات المتحدة نفسها لما تراه هي أهدافاً نبيلة تبرّر الحرب أو توجبها.
بدا لي في ذلك الحين ان الازمة وصلت الى "ربع الساعة الاخير" كما يقال. المساعي الدبلوماسية تنشط على كل المستويات، شاملة واشنطن وبعض العواصم العربية وموسكو والفاتيكان، باستثناء باريس التي اتسمت مواقفها حيال واشنطن بالحدّة وكفّت عن ان تكون وسيطاً كما موسكو مثلاً أو الفاتيكان.

لقد أتيح لي، في تلك اللحظة، ان أزور بغداد مرتين. وان أتنقل بين اميركا وفرنسا والفاتيكان، سعياً الى التقريب في وجهات النظر، إنطلاقاً من مبادىء الشرعية الدولية، ومع الأخذ بالاعتبار المصالح المشتركة وظروف الافرقاء المعنيين، إضافة طبعاً الى موازين القوى.
وبشكل عام كانت المساعي الدولية، والفاتيكانية خصوصاً، تتمحور حول ضرورة إدخال العراق في النظام الاقليمي الجديد أو العتيد بعد اتفاقات كامب ديفيد ومؤتمر مدريد وإتفاق أوسلو. وقد أبدت القيادة العراقية إستعدادات إيجابية من هذا القبيل. ومن أوراق العمل التي طرحت على مسؤولين عراقيين كبار، ورقة تتضمّن:
- التأكيد على وحدة العراق وسيادته واستقلاله،
- إلتزام العراق الكامل بالتعاون عملياً وكليّاً مع فرق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل.
- يقبل العراق، على صعيد الامن الاقليمي، بترتيبات عملية محدّدة تتعلق بالجيش واجهزة المخابرات والقوى الامنية. ومعنى هذا كله تنازلات عن صلاحيات محدّدة، سياسية وعسكرية وامنية لصالح منظومة دولية تكون أشبه بجهاز وصاية مؤلف من عناصر تابعة للامم المتحدة، وأخرى اقليمية يتفق على تشكيلها لاحقاً.
- وأخيراً قبول العراق السير في اتجاه التعدّدية الحزبية والانتخابات الحرّة تحت إشراف دولي.
قطعت هذه المساعي أشواطاً بعيدة، وكان الرئيس العراقي صدام حسين على علم وبيّنة من كل شيء. لكن الذي حدث في اللحظة الاخيرة، أو قبل ساعات قليلة من الانذار الذي وجّهته القمة الاميركية-البريطانية من الجزيرة البرتغالية، ان صدام حسين أحجم عن إبلاغ موافقته النهائية على ورقة الحل. فكان ما كان على حساب الحل والشرعية الدولية.

في 21 إذار 2003 سقطت كل المساعي الدولية الرامية الى تلافي الحرب، ومعها صدقية شرعة الامم المتحدة. ان هذه الشرعة تمنع اعتماد القوة من دون قرار دولي، وتعتبر مجلس الامن الدولي مصدر هذا القرار الدولي، هو المسؤول عن حفظ السلام والامن الدوليين، وبالتالي، لا يحق لاي دولة اللجؤ المنفرد الى القوة من اجل تغيير نظام أو حكومة لدولة أخرى مهما كانت "الاهداف نبيلة".
وإذا صح ان مجلس الامن قد اعتبر العراق، وبقراره الرقم 1441 تاريخ 8/11/2002، بات يشكل خطراً على السلام، وبانه في وضع المتخلّف عن القيام بواجباته في نزع أسلحة الدمار الشامل، إلاّ ان التثبّت من ذلك وقرار إعلان الحرب واستعمال القوة يظل من صلاحية مجلس الامن دون سواه.
ان القرار 1441 الذي صدر بالاجماع وبموافقة واشنطن وبناءً على طلبها، يحمّل واشنطن مسؤولية مضاعفة عن تفرّدها في شنّ الحرب.

يبقى ان ردات الفعل على العمليات العسكرية التي تمّت لاحقاً، وما تمثّله من انتهاك للشرعية الدولية، تظلّ خجولة ودون الافعال صدى وأهمية. إذ فيما كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك، وبعد اسبوع واحد على بدء هذه العمليات، يعلن ان واشنطن ولندن قد خرجتا على الشرعية الدولية، كان وزير خارجيته يعبّر عن انشراحه التام لاطاحة نظام صدام حسين. اما البرلمان الأوروبي فلم يتمكن من الاتفاق على اقتراح قرار "يأسف بشدة" لحصول العملية العسكرية على العراق.
هذا من دون ان ننسى فشل العرب أنفسهم في اتخاذ الموقف الموحّد والفعّال، إذ بقيت مقرّرات اجتماع القاهرة واجتماع شرم الشيخ، في مستوى التمنيات والتوصيات الطوباوية.

* في مدى شرعية الشرعية الدولية وحدودها

أياً كان تقويمنا للواقع القانوني أو الحقوقي في الحرب الاميركية-البريطانية على العراق، يبقى من الضروري التوقّف قليلاً عند معنى الشرعية الدولية وحدودها، أو محدودية شرعيتها وفعاليتها.
يجب ان لا ننسى ان منظمة الامم المتحدة هي هيئة سياسية تضم دولاً ذات مصالح ذاتية وعلاقات دولية تملي عليها احياناً مواقف ليست بالضرورة متطابقة مع الحق والعدالة والقانون. وكم من قرارات اتسمت بالغرضية أو كان التصويت عليها محكوماً بالمصالح والاعتبارات الذاتية. وما أكثر القرارات التي ظلّت حبراً على ورق كما القرارات المتصلة بالقضية الفلسطينية. وللبنان أيضاً في ذمة المؤسسة الدولية العشرات من القرارات والاستحقاقات المؤجّلة من زمن الى زمن، ناهيك عن تحدّي إسرائيل الدائم، ومنذ تأسيسها، لكل قرارات مجلس الامن والجمعية العامة للامم المتحدة.
ولا يسع المرء، في هذا المجال، إلاّ ان يتساءل عن مدى شرعية القرارات الدولية التي هي من صنع دول استبدادية أو حكومات مطعون في شرعيتها هي بالذات.
وكم من اصوات تباع وتشرى لدى التصويت على هذا القرار أو ذاك في هذا المحفل أو ذاك من المحافل الدولية، كما كان الامر عندما إنقسم مجلس الامن حول المسالة العراقية وتكاثرت الضغوط والاغراءات على انواعها: امّا للتصويت مع الولايات المتحدة، وامّا للتصويت مع فرنسا. ولا تزال المصالح الذاتية تتحكّم بالموقف من مصير العراق وشعبه حتى الساعة متلطية بالشرعية الدولية وقراراتها.
ان مفهوم الشرعية الدولية، سواء كان على مستوى مجلس الامن أو على مستوى الجمعية العامة للامم المتحدة مفهوم تشوبه أكثر من شائبة واحدة، وبخاصة لجهة تحديد أصوله وآلية تنفيذه أو لجهة إنبثاقه عن الشرعية الشعبية في هذا البلد أو ذاك.
ومن هنا الكلام على ضرورة إعادة النظر في ميثاق الامم المتحدة، وخصوصاً في تكوين مجلس الامن الدولي الذي لا يزال حكراً على الدول المنتصرة في الحرب الكونية الثانية، هو وقراراته. وماذا أيضاً لو كان العديد من الدول المسؤولة لا تزال تقاطع مجموعة من المؤسسات التابعة لهيئة الامم مثل المحكمة الجزائية الدولية وغيرها، وتتنصّل من موجباتها على هذا الصعيد وتتبرأ منها؟
في كل الاحوال، ان الامم المتحدة ليست أكثر من منبر أو منتدى عالمي أو مؤتمر دولي دائم يلتقي فيه دبلوماسيون من كل الامم والشعوب، وللدول الكبرى أو العظمى فيه الصوت الاكبر والاعلى، لا بل حق النقض. وما دام الامر كذلك فستظل الشرعية الدولية مفهوماً ملتبساً غامضاً تتقاذفه المصالح الذاتية وتتحكّم به الاغراض والاذواق، وكلّ يفسّره على هواه.

* * *

الشرعية الدولية والاحتلال الراهن للعراق

دخلت القوات الاميركية والبريطانية العراق، فأسقطت نظام صدام حسين وأقامت بدلاً عنه إدارة مدنية على رأسها حاكم أميركي مطلق الصلاحية. وكان ذلك بما يشبه التحدّي للشرعية الدولية التي لا تستطيع، في أي حال من الاحوال، الموافقة على الامر الواقع يفرض نفسه عليها ولا ثمة وسيلة لالغائه أو لتغييره، لكن تجاهله أيضاً، أمر مستحيل: فكان القرار الاخير لمجلس الامن الدولي رقم 1483.
كانت الغاية من القرار الدولي الرقم 1483 الاعتراف بسلطة الامر الواقع، وبنفس الوقت يحاول ان يؤمن حضوراً، ولو رمزياً، للامم المتحدة، من خلال مندوب لها تقتصر مهمته على متابعة الأوضاع وتقديم المشورة فقط لسلطات الاحتلال والاشراف على سير عمل فرق العمل التابعة للامم المتحدة المعنية بالشؤون الانسانية.
لقد كان الموقف الاميركي من هذا القبيل في منتهى الصراحة والصرامة: لا مشاركة لأي جهة في الانتصار على نظام صدام حسين، ولواشنطن وحدها الحق في اقامة النظام البديل وقد "دفعت ثمنه من حياة ودماء جنودها"، كما جاء على لسان وزير خارجيتها كولن بأول. وقالت مستشارة الرئيس الاميركي كوندوليزا رايس: "ان دور الامم المتحدة دور ثانوي فقط ولا تجاوز لهذا الحدّ".

ولعلّ الادارة الاميركية كانت تأمل ان تكرّر في العراق التجربة التي كانت لها في المانيا واليابان بعد احتلالهما في الحرب العالمية الثانية. وكثيرون أملوا ذلك ورأوا ان يصدّقوا ما كان المسؤولون الاميركيون يعلنونه من عزم على تحرير العراق تحريراً حقيقياً، لا باسقاط نظام صدام حسين الاستبدادي فقط بل باقامة نظام ديمقراطي حقيقي.
والحقيقة ان التجربة الاميركية في اليابان والمانيا كانت تجربة ناجحة على كل المستويات. فالحكم هنا وهناك كان ديكتاتورياً استبدادياً بامتياز. والمجتمع نفسه كان مصبوباً في القالب الواحد، كما ان الكوادر السياسية كلها كانت أيضاً من ذات العجينة، ولم يكن سهلاً أبداً الانتقال بالبلدين المذكورين من نظام استبدادي توتاليتاري الى نظام ديمقراطي برلماني. ومع ذلك، ورغم ذلك، لقد تمّ هذا الانتقال في صورة كاملة.
ومن النازية في أعظم اشكالها الى الديمقراطية البرلمانية في أحلى صورها. فلماذا ما يصحّ في المانيا واليابان لا يصحّ في العراق؟
لعلّ الولايات المتحدة الاميركية هي التي تغيّرت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وإنتهاء دورها كزعيمة للعالم الحرّ تحارب الشيوعية وتنشد تعميم الديمقراطية على أرجاء الكون. وكانت الشعوب تنظر الى اميركا على انها كذلك، بل تنظر اليها على انها ضرورة عالمية وكونية: فلا غنى عن الولايات المتحدة كدولة عظمى ورائدة. وكانت هي تنظر الى نفسها على انها كذلك أيضاً وتفاخر وتعتز، وتبالغ أيضاً في المفاخرة والاعتزاز. فماذا لو اصبحت الان تشعر بالعكس، بعدما سقطت كل الديكتاتوريات وعمّت الديمقراطية أرجاء الكون أو تكاد –باستثناء المنطقة العربية والشرق أوسطية-، وكان ذلك "نهاية التاريخ" كما يقول فوكوياما؟
اجل، لعلّها اميركا التي بدأت تشعر انها لم تعد تلك الضرورة للسلام العالمي ولتعميم الديمقراطية فيما هي تزداد تشبثا بدور فقد كل مبرراته أو بعض مبرراته.

والحال ان الطريقة التي يتعامل بها الحاكم الحالي مع واقع الحال في العراق ليست هي نفسها التي تعامل بها سلفه في اليابان. فمن موقع الثقة في النفس خاطب الجنرال ماك ارثور امبراطور اليابان، فبالغ في احترامه، واحترام موقعه وتعاون معه على إدارة شؤون بلده والسير به في اتجاه الديمقراطية. وفي خلال سنوات أعادت اليابان بناء مؤسساتها واستعادت ذاتها وموقعها ودورها الاقليمي والدولي.
وهكذا أيضاً، أو بذات الادبيات كان التعامل مع واقع الحال في المانيا المحتلّة، ومع باقي الدول الأوروبية، أي بذات الثقة في النفس وفي الدور الرسالي الذي تطوّعت له الولايات المتحدة بعد خروجها من عزلتها التي دامت سنين طويلة.
اما الحاكم الاميركي في العراق، فكان أول عمل له بعد تعيينه، هو إزالة كل السلطات القائمة، وإلغاء الجيش العراقي برمّته وتسريح عشرات الالوف من الجنود والموظفين وأساتذة المدارس والجامعات في محاولة لاقتلاع كل أثر للنظام البعثي بل محو آثاره كلّها. فمن الصفر أراد إقامة النظام البديل.
ثم كان تأسيس مجلس الحكم كخطوة أولى هي، بلا ريب، إيجابية لا بل ضرورية وان كان مطعوناً في شرعيتها. وإذا صحّ ان تشكيل هذا المجلس جاء معبّراً عن تركيبة المجتمع العراقي في كل شرائحه الدينية والمذهبية والاثنية، إلاّ ان مدى تمثيل أعضائه للناس ظلّ ناقصاً ومحدوداً، حتى ليصحّ القول ان التمثيل الشعبي الحقيقي لم يكن على النحو المرتجى. هذا فضلاً عن ان صلاحيات هذا المجلس تكاد تكون معدومة، وهي صلاحيات رمزية أكثر مما هي حقيقية وفعلية. انه مجلس استشاري فقط لا مجلس حكم. وإذا شاء في وقت من الأوقات ان يقرّر في أمر كان قراره عرضة للنقض إذا ما رأى الحاكم الاميركي انه قرار غير ملائم.
اما على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، والامني خصوصاً، فألف سؤال وسؤال يطرح في هذه المجالات.
ان مشكلات قانونية لا تحصى ولا تعدّ ستطرح امام المحاكم المحلية والدولية لجهة ملكية بعض المرافق واستثمارها، وحول الممتلكات المصادرة والمباعة الى طرف ثالث أو أزيلت من الوجود أو تمّ تغيير معالمها سلباً أو إيجاباً. وماذا عن قطاع النفط ومنشآته فوق الارض وتحتها، وعن الاموال الضخمة اللازمة لتشغيل هذا القطاع واستثماره، وعن الاتفاقات المعقودة مع الشركات البترولية العملاقة، وما هو مصير هذه العقود التي لم تنفّذ بعد ولا بوشر بتنفيذها؟
وعلى الصعيد الاجتماعي، فمن المعروف ان الشرعية الدولية تملي على الاحتلال واجبات عديدة، من مثل رعاية الناس في أمنهم وفي توفير الحدّ الادنى من الخدمات الحياتية والاجتماعية. هذا من دون ان ننسى مصير آلاف المسرّحين من الجيش والقوى الامنية على أنواعها أو من الادارات العامة والمدارس والجامعات بسبب انتمائهم الى حزب البعث، وغالباً ما كان هذا الانتماء للحصول على وظيفة فقط أو على رغيف.
والخلاصة ان إذا صحّ ان القرار الدولي 1483 يعترف بالاحتلال ويقرّ بوجوده أمراً واقعاً ولا مفرّ من التعامل معه، إلاّ ان هذا الاعتراف يحمّل الاحتلال مسؤوليات وأعباء تنصّ عليها الاتفاقات والمعاهدات الدولية والمواثيق المعقودة بدءاً بميثاق الامم المتحدة الذي لم يكن موجودا عندما كانت الولايات المتحدة الاميركية تحتل المانيا واليابان وتتكل على نفسها وعلى دستورها فقط أو على ما تدّعيه لنفسها من رسالة كونية.
ومن هنا الحاجة الى الامم المتحدة والشرعية الدولية في العراق.
ومن هنا السؤال الملح عن دور هذه الشرعية في إعمار العراق، سياسياً في المقام الأول. ان اميركا اليوم ليست اميركا الامس، وهي، بلا ريب، باقية متعثّرة في خطواتها على الساحة العراقية إذا ظلّت تتشبّث باحتكار الدور والمهمة. وقد بدأت، بالفعل، تنفتح على الامم المتحدة وتحاول وصل ما انقطع بينها وبين مجلس الامن الدولي. وإذا صحّ ان الشرعية الدولية باقية، حتى إشعار آخر، نسبية ومحدودة الفعل، هي وقراراتها، إلاّ انها تظلّ اكثر موضوعية وشمولية من ادارة اميركية سندها الوحيد الاحتلال العسكري.
وكل الرجاء ان يسفر شدّ الحبال الدائر الآن بين واشنطن والمعترضين على تدخّلها العسكري في العراق حول الدور الذي يجب ان تضطلع به الامم المتحدة في العراق عن قرار من مجلس الامن الدولي يكون البداية. بالتالي، يتأمّن تعاون دولي بنّاء تتزعّمه واشنطن المعنية الأولى بالوضع على أرض العراق ويحقّق إعماراً حقيقياً للبلد على كل الصعد، أو على الاقل يشكل بداية ادارة سليمة للاحوال العراقية تمهّد لقيام دولة عراقية حقيقية، وبنظام ديمقراطي يحقق أوسع مشاركة في النهوض بهذا البلد العزيز علينا جميعاً.

* * *
والحقيقة ان قلبنا على العراق، أو بالاصح قلوبنا جميعاً على العراق لألف سبب وسبب. وقد نكون نحن اللبنانيين أدرى بالازمة العراقية من الجميع. فنحن أيضاً مجموعة أقلّيات دينية وثقافية، وبمعنى من المعاني حضارية، مثل الاقليات التي يتشكل منها المجتمع العراقي وأكثر. فماذا لو كانت "اللبننة" هي الحل في العراق، بما تعنيه اللبننة طبعاً من مشاركة في الشأن العام وفي السلطة والقرار، لا تلك التي عنت، في وقت من الأوقات حروباً داخلية عبثية لا تنتهي. والحقيقة ان كل المجتمعات التي تتشكل على هذا النحو هي دائماً على حدّين، حدّ الديمقراطية، وحدّ الحرب الاهلية ولو من دون سلاح. وهذا ما اكتشفه اللبنانيون وتعلّموه منذ زمن وعبّروا عنه في مواثيقهم المتتالية.
ولا يحكم على التجربة اللبنانية من خلال الامر الواقع المفروض عليها منذ سنوات والقاضي بتعطيل مؤسساتها السياسية وغير السياسية. هذه التجربة هي البديل من كل التجارب التوحيدية القائمة، بالضرورة، على الاستبداد، أو على الخطاب الايديولوجي الواحد.
وأرى نفسي، هنا، مدفوعاً بالاعراب عن هذا التمني امامكم كحقوقيين وخبراء في الحقوق والقوانين والدساتير. فماذا، مثلاً، لو قامت نقابتنا العزيزة والكريمة، نقابة المحامين، بتشكيل وفد من الاختصاصيين في القانون الدستوري ومن اصحاب الخبرة في التجربة السياسية والدستورية اللبنانية، يزور العراق، ويزور نقابة المحامين في بغداد، طلباً لتحاور وتعاون بين النقابتين حول النظام السياسي الاصلح للعراق بعد التجارب التي مرّ فيها البلدان المتشابهان لبنان والعراق؟
فربما كانت هذه المبادرة اللبنانية المتميّزة فاتحة لمبادرات عربية اخرى مماثلة، في هذا المجال وفي سائر المجالات، تخرج الشعب العراقي من عزلته، أو من شعوره بالعزلة وبما يشبه التخلّي العربي عنه وسط المحنة التي لم يعرف عنها مثيلا في تاريخه.
ولا أظنّني أتجاوز حدودي، الساعة، إذا ما دعوت تكراراً الى نوع من الشراكة العربية-الاميركية في إنقاذ العراق.
لقد سبق ان طرحت هذه الرؤية من على أحد المنابر الاميركية، من منبر جامعة هارفرد. فلقيت صدى. وأعود اليها الساعة هنا، ومن على هذا المنبر لعلّ وعسى.
فالكل في مأزق: تبدو اميركا في مأزق وهي بحاجة الى الآخر، بحاجة الى تضامن العرب معها. والعراق والعرب في مأزق وهم بحاجة الى تضامن اميركا معهم. ذلك، من اجل الاستقرار والانماء.
ان إشعارها بذلك قد يكون أجدى من تكفيرها دائماً والإيحاء إليها بانها مكروهة. وقد تكون المصالح الاقليمية والدولية قد أصبحت، بعد التجربة، متقاربة، بما فيها المصالح العربية والاميركية، أقلّه في العراق، البلد الذي يستاثر الآن باهتمام الدول قاطبة. فمن شأن هذه الشراكة، متى انعقدت، ان تعجّل في إحلال الامن في ربوعه، وان تعجّل في التحرير، وفي رفع مداميك الدولة العراقية، المستقلة والديمقراطية. فيعود العراق مجدّداً الى كنف الشرعية الدولية.