Back to Lectures

شبابنـا والاستقـلال

2000-12-15

شبابنـا والاستقـلال

الرئيس اميـن الجميـّل

* * *

جامعة سيدة اللويزة
زوق مصبح، 15 كانون الاول 2000

أتوجّه بالشكر أولاً، الى هذا الصرح الجامعي، رؤساءً وإدارةً وطلاّباً، على دعوتهم الكريمة الى هذا اللقاء يضمّني لأول مرة منذ عودتي الى الوطن، الى شريحة من شبابه، أمل المستقبل، بل المستقبل إياه. ولا يسعني، في المناسبة، إلا أن أنوّه بالجهد الذي يبذله هذا الصرح الجامعي على الربط العميق بين العمل الأكاديمي ومشكلات المجتمع. وقد أتيح لي أن أطّلع على نماذج عن هذه الورشة الفكرية تتجاوز الخطابة المنمّقة الى المفاهيم الفاعلة والواصلة الى عمق المشكلات الاجتماعية. وما أكثرها.
أيها الشابات والشبان،
إياكم أخاطب، وأخاطبكم من القلب، قلب رئيس حمل صليب لبنان في أصعب دروبه، أو على الأقل قلب لبناني عاش محنة هذا الوطن في كل فصولها، ومنها الغربة القسرية عن ربوعه، وحيل بينه وبين العودة إليه مرات لأنه لا يفهم لبنان إلا سيداً عزيزاً كريماً.
كان همي في خلال ولايتي الصعبة والمستحيلة ألا أسلّم لبنان لأي جهة أو دولة إقليمية، كما كان يطلب مني بإلحاح، وبشتى الوسائل القاهرة، والقاتلة أيضاً في بعض الأحيان. وأقصد بلبنان هنا، لبنان الرسالة ذات البعد الكوني، ولبنان الميثاق التاريخي الذي جعل من هذا البلد، ولأول مرة في تاريخه، دولة سيدة مستقلة، وديمقراطية في آن واحد، ومع أوثق العلاقات مع محيطها العربي، ومع التطلّع الى دور عالمي، ثقافي على الأقل، إلا انه عظيم، ألا وهو الحوار الدائم بين الأديان والحضارات وفي خدمة الإنسان.
لا تتعجبوا إذا كلّمتكم، أولاَ، عن هذا الميثاق على رغم ما قاسيت من أجله. لأنه ليس تقاسم مقاعد نيابية أو وزارية أو رئاسية، كما قد يخيّل لبعضهم، بقدر ما هو قيم ومفاهيم إنسانية وحضارية كان من أجلها الدستور والنظام السياسي، وما يعرف بالمشاركة في السلطة والقرار السياسي. إنما المشاركة هي في رفع مداميك وطن نموذجي، ودولة لا مثيل لها، لا مشاركة في الغنائم هي دائماً متناقصة.
أستعيد هنا هذا الوصف للبنان الميثاق كما ورد، مرة، على لسان بيار الجميل:
الأوطان المسيحية كثيرة،
والأوطان الإسلامية كثيرة،
ولكن ما من وطن يلتقي فيه الإسلام والمسيحية كما يلتقيان في لبنان.
وفي أي حال، إن الحرية هي في أساس كينونة لبنان، من الناحية التاريخية. وأخص بالذكر هنا حرية المعتقد التي لم يكن لها وجود من قبل في هذا الشرق، وهي أن يؤمن المرء أو لا يؤمن، وأن يغيّر معتقده إذا شاء، ومتى يشاء وكيفما يشاء.

* * *

والمؤسف ألا ينقل إليكم عن ميثاق العام 1943 إلا ما يتصل بالحصص في السلطة والصلاحيات التي هي، طبعاً، متغيّرة دائماً أو يقتضي إعادة النظر فيها كلما اقتضت الحاجة.
لم ينقل إليكم إلا ما هو مكتوب. أما ما لم يكتب فلم ينقل إليكم أبداً، لا في الكتاب المدرسي، ولا كتاب التاريخ خصوصاً، ولا في أي كتاب. وهو في الحقيقة لا ينقل مكتوباً أبداً لأنه روح قبل أن يكون دستوراً، ولأنه حياة وتجربة حضارية وإنسانية لا تنتهي، ولأنه حوار دائم لا ينتهي هو أيضاً. الميثاق عقد على مدى الحياة. وقد أثبتت الأيام أن كلما كنا أمناء لهذا الميثاق كان الأمن والاستقرار، وكلما انحرفنا عنه كان التأزم والاضطراب. ولهذا السبب تراودني فكرة التأسيس لهيئة دائمة أو لمنبر دائم في إحدى جامعاتنا، أو في كل الجامعات اللبنانية، يعنى بالبعد الاستراتيجي للميثاق الوطني المتجدد باستمرار، وبالبعد الثقافي والحضاري منه خصوصاً. فلبنان ليس بلداً مثل سائر البلدان، ولا هو وطن مثل سائر الأوطان، ولا هو دولة مثل كل الدول. إنه وطن الحوار الدائم بين المعتقدات والحضارات، وبخاصة المسيحية والإسلام.
صدّقوني، هذه هي الثوابت التي أبيت التخلّي عنها أو التساهل في شأنها إبّان ولايتي الصعبة والمستحيلة، ليقيني بأن لبنان من دونها لا يبقى، بل لأن من أجلها كان، فيما اللعبة الإقليمية والدولية ترى إليه على أنه الساحة الفضلى لها وللنزاع الإقليمي ريثما تنضج التسوية السياسية له وتكتمل. وقد أثبتت التجربة عبثية الحروب التي جعلوا لبنان ساحة لها، وأثبتت أيضاً أن لبنان البلد المثال هو الحلّ لكل هذه النزاعات، شرط أن يكون سيداً حراً مستقلاً طبعاً.
* * *

فلا حوار، ولا ديمقراطية، ولا حريات إلا في ظل دولة مكتملة السيادة، سيادة الدولة على حدودها كلها وعلى كل أراضيها، وسيادة الشعب على حكامه وليس العكس. وكل كلام على الديمقراطية والحريات هو كلام فارغ طالما ان لبنان هو تحت الحماية أو الوصاية، وصاية هي فقط كي يظل ساحة لا لأنه قاصر أو فاقد الأهلية أو عرضة للفتنة إذا رفعت عنه الحماية. لقد سبق أن كان تحت الحماية فانتفض عليها في العام 1943 وبدلاً من أن تحدث فتنة حدث العكس. والصحيح ان استمرار الحماية الخارجية كان سيعرّضه للفتنة ولما هو أدهى لو لم يبادر أهله الى التوافق على تلك الاستراتيجية التي رسم خطوطها الميثاق الوطني، على المستويين الداخلي والخارجي وكان استقلاله الكامل الناجز أول استقلال في المنطقة العربية والشرق الأوسطية.
وعلى هذا النحو أيضاً يستعيد لبنان سيادته واستقلاله.

* * *
أيها الأعزاء،
الاستقلال يؤخذ ولا يعطى. يؤخذ بالاسنان، بالتضحية، وعند الضرورة بالتضحية القصوى، بالفداء.
فإنجاز العام 1943 كلّف أثماناً من هذا القبيل. وهل هو قليل أن يعتقل رئيس الجمهورية يومذاك ورئيس الحكومة الاستقلالية الأولى وبعض الوزراء والزعماء ويزجّوا في السجون؟ وكان قد سبقهم الى السجون والمشانق العشرات من المنادين بوحدة الكيان اللبناني واستقلاله.
وما من تضحية إنسانية تذهب سدى.
فلا تندموا على ما دفعتموه من أثمان على الحرية والاستقلال. من جهتي، لست نادماً أبداً على ما كلّفني صمودي في خلال ولايتي، أو في خلال منفاي من قهر، واغتيال سياسي بعدما تعذّر الاغتيال الآخر. ولا أعتقد أبداً أن دم أخي بشير ورفاقه ودم سائر الشهداء ذهب هدراً. فالاستقلال آتٍ بلا ريب إذا ما تواصل العزم على انتزاعه، بالأسنان كما قلت، مع كل ما تعنيه هذه الكلمة من عزم وعناد وروح فداء. ودور الشباب، هو المعوّل عليه كما في الأمس وفي كل زمن وبلد. وأنتم، في أي حال، أنتم أنفسكم، لبنان الآتي، أو لبنان الغد كما يقال، أو لبنان الذي يجب أن يكون سيداً عزيزاً كريماً ومرفوع الرأس. وكما تكونون سيكون لبنان والعكس بالعكس. ولست هنا لألقي عليكم موعظة في الاستقلال بل لأبسط أمامكم خلاصات لتجربة عشتها وتقلّبت في نارها، مناضلاً في تنظيم سياسي، ومقاتلاً، ورئيساً مؤتمناً على دستور وسلامة أرض وحدود.
إن أول ما استوقفني هو التفاوت الكبير ما بين عظم الحس الوطني لدينا جميعاً الذي صنع المعجزات في التمرّد على الهيمنة، خارجية كانت أو داخلية، من جهة، وتضاؤل الحسّ المدني –إن جاز القول- الذي لا يصنع، طبعاً، أي معجزة على مستوى التأسيس لدولة تقيم حكم القانون على الجميع وتسهر على الحريات وحقوق الإنسان من جهة ثانية. ولا أبالغ إذا قلت أن هذا التفاوت بين الحس الوطني والحس المدني يشكل العامل السوسيولوجي الدائم في تاريخنا.
إن ثمة ذهنية تتحكّم بنا جميعاً على هذا الصعيد، موروثة عن زمن مضى حيث "الشطارة" تقوم مقام الصدق والاستقامة، والفوضى مقام الالتزام، ناهيك عن الأنانية المفرطة والانفلات في الرغبات الذاتية. فالتنشئة على المسؤولية الشخصية تكاد تكون معدومة، ومخالفة القانون والنظام هي بطولة. أما مفهومنا للدولة، فلا يزال كما كان في عهد الدولة العثمانية التي هي النموذج الذي لم يعرف اللبنانيون سواه على مدى أربعة قرون، وليس أدلّ على ذلك مما حدث لدولة الاستقلال بعد قيامها.
وأكرّر: إن ما تمّ إنجازه في العام 1943 كان عظيماً: إستقلال كامل ناجز أحلّ لبنان في مرتبة عالية في الأسرة العربية والدولية، وعضواً مؤسّساً في جامعة الدول العربية، وفي منظمة الأمم المتحدة، كما في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد برهن اللبنانيون، عهدذاك، عن انهم شعب حر وعنفواني الى ابعد الحدود، والأهم من ذلك كله عظم روح التمرّد لديهم حتى الاستشهاد التي جمعت في ما بينهم وأسست للميثاق الوطني وما استتبعه من تضحيات متصلة على مدى الزمن. هذا الشعور الوطني الجيّاش لم يقترن لاحقاً بالشعور بالمسؤولية عن الإنجاز الذي صنعته تلك التضحيات. حتى ليصح القول أن اللبنانيين لا يبخلون بأي تضحية للوصول الى الاستقلال، لكنهم لا يعرفون كيف يحافظون عليه.
الاستقلال، أيها الأعزاء، مسؤولية، بل عملية خلق متواصلة. إذ ليس قليلاً أو أمراً بسيطاً أن يكون شعب أو بلد مسؤولاً عن نفسه، أي في غنى عن أي حماية لأمنه واستقراره وسلامة أرضه وحدوده، وبخاصة في حال لبنان وسط محيطه الذي هو في غليان دائم. وغني عن القول أن كل ما يحدث في جوارنا يؤثر، سلباً أو إيجاباً، على أمن بلدنا كما على استقلاله الوطني. وكل التحدي أن يعرف أهله، وبخاصة أنتم المسؤولون لاحقاً عن مصيره، كيف تؤمّن هذه الحماية الذاتية التي ليست عسكرية بقدر ما هي ثقافية وسياسية أو ديبلوماسية. فإذا صحّ أن لا غنى عن جيش، مثلاً، يدافع عن الأرض والحدود وعن الكرامة الوطنية والاستقلال، وعن تصدّينا جميعاً بالسلاح وبروح الفداء لأي اعتداء خارجي، إلا ان كل التحدي أن نعرف كيف نمنع كل الحروب وويلاتها عن بلدنا. ويبدأ ذلك بالتوافق على استراتيجية دفاعية لبنانية تنطلق من تحصين المجتمع وتمتين بنيته على كل المستويات وتتأسس على معنى وجود لبنان واستقلاله ودوره ورسالة شعبه، يتأسّس على قراءة واضحة لواقع محيطنا، وعلى مواكبة دائمة للأحداث الجارية حولنا. وهذا مكمّل لميثاقنا الوطني، إذ لا سياسة دفاعية وخارجية إلا انطلاقاً من رؤية لبنانية واحدة لهذه الأحداث يصنعها الحوار الدائم والنقاش المبني على وقائع لا على المشاعر فقط.
إن التخلّي عن هذا الموجب هو تخلّ عن السيادة والاستقلال.
وليس صحيحاً أن مثل هذه المسألة هي من شأن الحكام فقط، أو من شأن الدولة كما يقال، فلا علاقة للناس بها. هذا كلام مخالف لمعنى الدولة التي هي شعب أيضاً وفي الدرجة الأولى، فضلاً عن أنها تتصل بالوفاق اللبناني وبالميثاق الوطني. إن لمن الغرابة أن يدعى اللبنانيون الى الذهاب الى الحرب أو الى السلم أيضاً من دون أن يعرفوا كيف ولماذا.
أشير الى هذه الأمثلة والحقائق للدلالة على المسؤولية التي تنتظركم. فالمعرفة هي الزاد الذي لا غنى عنه، والمؤدية الى ثقافة سياسية لا غنى عنها أيضاً لكل شعب يريد أن يكون مسؤولاً عن نفسه.
أيها الشابات والشبان،
إن معركة الاستقلال تبدأ بتحديد ثقافة الاستقلال La culture de l'Indépendance .
فأنتم مدعوون الآن الى أداء دور تاريخي ينطلق من تعبئة مجتمعنا في هذا الاتجاه. إنكم مدعوون للتصدي لمحاولات تيئيس الشعب اللبناني من الاستقلال وترويضه على التأقلم مع الأمر الواقع وإيهامه أيضاً بأن الاستقلال في هذا الزمن قد تلاشت حدوده ولم يبق له ما يبرّره. فلا بدّ بعد هذا التنكيل بلبنان وشعبه، من حملة مضادة تبدأ في ذواتكم أنتم رفضاً لواقع الحال ينتقل هذا الرفض بالعدوى التي تكلّم عليها برغسون، وتشكل في النهاية دينامية جديدة تعمّ مجتمعنا كله وتسقط كل الادعاءات المخالفة والقوى الداعمة لها.
فلا غنى عن هذه اليقظة الوطنية تكونون أنتم الطليعة المتحركة لها:
في الجامعة، مختبر الأفكار والمبادرات الخلاّقة، والتي في إطارها تتكوّن حركة التغيير في كل بلد ومجتمع، وكل الحركات الوطنية عادة. والأمثلة على هذه الظاهرة عديدة، في فرنسا العام 1968، وفي المانيا قبل سقوط جدار برلين، وفي الولايات المتحدة الأميركية إبان تورّطها في حرب فيتنام العبثية. وقس على ذلك.
وفي الأحزاب السياسية التي شاخت فاقتضى مدّها بروح الشباب وعافيته، كما في السابق حينما كانت المنظمات الشبابية فيها هي "المشتل" للكوادر النشطة والمتحركة، ومصدر التجديد فيها والتغيير. وإذا ما تمنّعت أو سدّت أبوابها في وجهكم فاقتحموها وبدّلوا ما فيها من عفن أو كهولة أو استرخاء أو تبعية أو انغماس في الشهوات.
وفي الأندية على أنواعها كما في كل تنظيمات المجتمع الأهلي أو المدني، وما أكثرها على تعدّد اهتماماتها وأهدافها. إنها كلها مجال للتعبير عن التزامكم الشأن العام وقضية الوطن والدولة والاستقلال. بل إنها الإطار الصالح لقيام تضامن مجتمعي ووطني حقيقي. وفي اختصار، لا تكونوا على الحياد في زمن يقضي بالانخراط الكامل في القضايا العامة والوطنية: إن مستقبل لبنان موقوف على ذلك.
وإني، إذ أتكلّم على مسئوليتكم، حاضراً ومستقبلاً، لا أنسى حقوقكم، علينا وعلى من سبقكم الى هذه المسؤولية.
إن لمن الغرابة أيضاً أن يتقرّر مصير لبنان، أي مصيركم، بمعزل عنكم. فلا الدولة، ولا السلطة السياسية تسألكم رأيكم، ولا المؤسسات السياسية تتسع لكم بحجة أنكم لم تبلغوا سن الرشد مثلاً. ولا الأحزاب، لسؤ الحظ هي مؤهلة كفاية لاستقبالكم في صفوفها… أو لأن الطبقة الحاكمة والوصاية المفروضة على لبنان لا تريدان أحزاباً نشطة تشرك الشعب في القرارات السياسية والوطنية.
واضح أنهم يريدون هذا الشعب أفراداً لا يربط بينهم رابط. يريدونه مبعثراً: فلا أحزاب منظمة، ولا نقابات نشطة ومتحرّكة، ولا جمعيات أهلية إلا مرتهنة. فيما الصحيح أن ما يحفظ شعباً هي مؤسساته، العامة والخاصة والأهلية في الدرجة الأولى، لا سيما في حال لبنان الراهنة حيث مؤسساته الرسمية أو الشرعية تشكو أكثر من خلل، على مستوى التمثيل الصحيح، ولكل الأجيال، كما على مستوى العلاقة في ما بينها. وأنتم، في أي حال، غير ممثلين في هذه المؤسسات، ومتروكون، ريثما تفتر همّة الشباب فيكم أو تقلّ الحماسة. فلبنان الراهن يجب أن يظل هادئاً مستكيناً، وشبابه معفياً أو مستقيلاً من أدواره. وهذا ما ينبغي التصدّي له بأكبر قدر من العناد والتمسّك بالحق على كل المستويات.
حدث ذلك في الأمس، في ظل الانتداب ، أو الوصاية السابقة.
إلا أن الأمر لم يكن حائلاً دون تلك الانتفاضة التي تمثّلت في منظمات شبابية كان لها الدور الأساسي في معركة الاستقلال. كانت ممنوعة ومحظورة، إلا أنها حيّة نشطة، وحاضرة أبدا. وبخاصة في هذا الزمن، زمن العولمة القافزة من فوق الحدود السياسية وخصائص الشعوب والهويات الوطنية، وبالتالي، من فوق حقوق الإنسان. إن الانفتاح وإزالة الحواجز بين الشعوب وتحرير التبادل في ما بينها على كل الأصعدة من القيود الجائرة، أمور فيها النفع والفائدة، ولكن فيها أيضاً أخطار عديدة على الهويّات والثقافات الوطنية إن لم تكن هذه محصّنة تحصيناً كافياً ضد هذا الاجتياح. وفيها كل الخطر على العائلة وعلى مجتمعاتنا في هذا المشرق، المشرق العربي وتراثاته وحضاراته. إننا، في لبنان، معنيون بهذا التغيير الهائل على المستوى العالمي، ومعنيون أيضاً بهذه المشرقية التي تشكل خط دفاع أساسي لنا ولكل الشعوب العربية والشرق الأوسطية.
في أي حال، إن من حقكم أن تقولوا أي لبنان تريدون، وأي إعمار ونهوض اقتصادي، وأي مدرسة ومعهد وجامعة، وأي تعليم وتربية.
أنتم لبنان الغد، فلا تدعوا الغيارى ومدّعي الغيرة على مستقبلكم يبنونه على هواهم وبمعزل عنكم. فأين الحركة الطالبية تعود كما كانت في السابق؟ أين الاتحاد الوطني للطلاب الجامعيين… أو أين هو التنظيم الطالبي الجامع بين هذه الطاقات الهائلة، والمانع للفوضى، والمتعاون مع المؤسسات والهيئات التعليمية على النهوض بالمعرفة والعلم في لبنان الى مستوى رسالة هذا البلد ودوره الإقليمي والعالمي، أو على الأقل الى مستوى الثورة الاقتصادية الجديدة التي ستقلب حياة المجتمعات البشرية رأساً على عقب.
إنه اقتصاد المعرفة، حيث المعرفة هي المادة الأساسية، إن جاز القول، وحيث لبنان يستطيع، بفضل عبقرية إنسانه، أن يكون متفوقاً، وبخاصة في زمن أصبحت الحروب فيه حروباً اقتصادية، لا عسكرية، أو حيث عظمة الدول تقاس بعدد علمائها لا بعدد عسكرها وضخامة جيوشها.
ولا شيء يمنع لبنان، أساساً، من أن يكون على الأقل دولة محترمة من هذا القبيل، إضافة الى رسالته ذات البعد الكوني والإنساني، بل بوسعه أيضاً أن يكون بلداً عظيماً على الصعيدين معاً.
أما استقلاله، فمن أجل هذا الدور، وهذه الرسالة.

جامعة سيدة اللويزة
ذوق مصبح، في 15 كانون الأول 2000