Back to Lectures

الذكرى ال 95 لإعلان دولة لبنان الكبير

2015-09-01

كلمة الرئيس أميـن الجميّل
في الذكرى ال 95 لإعلان دولة لبنان الكبير
1 أيلول 2015
* * *

السيدات والسادة،
عزيزةٌ هي هذه المناسبة التي شاءَتها الأميرة حياة ارسلان، البالغةُ الحرصِ على الكيان، والمهمومةُ أبداً بلبنان، مناسبة هي فرصةٌ لإثباتِ الذاتِ اللبنانية، هُويّةً وإنتماءً.
ومشرفّةٌ رعايةُ البطريرك الماروني الذي نستذكرُ من خلالِ عصاه الراعوية مواقفَ البطاركةِ الكبار الذين خطّوا بقلمِهم إستقلالَ لبنانَ الكبير.

أنا هنا من أجلِ أن تبقى الذكرى حافزاً في هذا الزمنِ المليءِ بالقلقِ على المستقبل، بل على الوجودِ والمصير.
أنا هنا لأشهدَ بأن لبنانَ الكبير صناعةٌ لبنانية، إرادةٌ لبنانيةٌ هو، إيمانٌ لبناني رغم كلِ الاغراءاتِ التي بعضُها تشريقٌ وبعضُها تغريب،
لا المسلمون كانوا كلّهم فيصليين، ولا المسيحيون كانوا كلّهم فَرَنجة.
أقولُ هذا الكلام وقد عشتُ مفرداتِهِ ويومياتِه مع الوالد الشيخ بيار الجميّل، الذي عايش هذه المرحلة، مؤمناً بلبنانَ الواحد، لبنانُ الشراكةِ بين أهلِه وطوائفِه ومذاهبِه.
وقصتُنا ولبنان لم تبدأ مع الاحتلالِ السوري، ولا مع الهيمنةِ الفلسطينية، ولا مع الانتدابِ الفرنسي، بل مع الحكمِ العثماني، أو ما عُرِفَ بالنير العثماني، فكان جدي الدكتور أمين وشقيقُهُ الشيخ يوسف الجميّل، ضحايا النفي الى مصر مع أفرادِ عائلتيهِما.
لاحقَهُما العثمانيون لنضالهِما، لمقاومتهِما، للبنانيتهِما.
ولم ينتهِ النضالُ بزوالِ الاحتلالِ السوري.
قصتُنا ولبنان حسابٌ مفتوح، دفترٌ يومي. فاللبنانيون لا يرضوا لبنانَ وطناً يعيشُ بالصدفة، بل وطنُ أرزٍ ورسالةٍ وثورةُ استقلال، وطنٌ لجميع أبنائِه، ودولةٌ قادرةٌ بديمقراطيتِها وحرياتِها.

هكذا كان نضالُ الشيخ يوسف الجميّل ملتقياً والامير توفيق أرسلان خلال الوفد البطريركي الى باريس، من أجل إعلان لبنان الكبير!
وهكذا استمرّ نضالُ بيار الجميّل متوافقاً والامير مجيد ارسلان وسائرِ رجالاتِ الاستقلال ضدّ الانتدابِ الفرنسي.
فكان السجنُ لبيار الجميّل في بيروت، والحصارُ لمجيد ارسلان في بشامون، وكان الاستقلال.
استقلالٌ إستحقّه اللبنانيون دونَ مِنّةً، بعد ثلاثةٍ وعشرين عاماً على استرجاعِ لبنان حدودَه الدولية.

أيّها الكرام،

إن عشيّةَ الاولِ من ايلول من العام ١٩٢٠ كانت بمثابةِ "اليوم السعيد" كما أسماه المطران عبدالله الخوري الذي ترأسَ الوفدَ الثالث الى مؤتمرِ فرساي، بعدما إستدعى البطريرك الياس الحويّك الشيخ يوسف الجميّل من منفاه في مصر لينضمّ الى الوفدِ اللبناني الثالث الى مؤتمر الصلح، الى جانبِ الرئيس اميل اده، والرئيس كامل الاسعد، والفرد موسى سرسق، والامير توفيق ارسلان.
نعم، توحّدت الارادتان، المسيحيةُ الممتنعةُ عن التغريب، والاسلاميةُ الممتنعةُ عن التعريب، فكان لبنانُ الكبير، هذا المشروعُ الوطني الذي صمَد بوجهِ محاولاتِ تجفيفِه وتجويفِه، وقاوَم كلّ محاولاتِ التخريبِ والرمايةِ عليه وتسجيلِ إصاباتٍ مميتةٍ أحياناً، كما حصلَ خلالَ الحربِ اللبنانية الطويلة، ومسبباتِها الخارجية، ومضاعفاتِها ومطامعِها بشتى أنواعِها ومشاربِها وهويّاتِها، والتي لم يبقَ كبيرٌ أو صغيرٌ في المنطقة وفي العالم إلاّ وجرّبَ لبنانَ ممراً أو مقراً، فكان لبنانُ أقوى من كلِ المحاولات.
أقوى من المشاريعِ الاحتوائية.
أقوى من المشاريعِ الإلحاقية.
أقوى من المشاريعِ الإلغائية.
فلا فرنسا أغرَتهُ وصادرته،
ولا الهلالُ الخصيب ابتلَعه،
ولا القمرُ الخصيب إستهواه ،
ولا سوريا الكبرى استمالَته ،
ولا إسرائيل الكبرى قسّمته.
هذا هو لبنانُ التاريخي بحدودِه التاريخية من ايامِ عهودِ الإمارة، ومن الامتدادِ الفينيقي القديم.
لا نريدُ تكبيرَه على حسابِ أحد، ولا نرضى تصغيرَه لحسابِ أحد.
لا وحدةَ مع العربِ المقسّمين،
ولا تقسيمَ للبنانيينَ الموحّدين.
لا المسلمون كانوا اقليةً في لبنان في العام ١٩٢٠، ولا المسيحيون باتوا اقليةً في العام ٢٠١٥،
فلنتّفِق ان اللبنانيينَ هم أكثرية في بلدِهم، فلا العدّداتُ تُفرِزُهم، ولا السياساتُ تفرّقُهم، ولا الاصطفافاتُ مع الخارج تُلغي وجودَهم في الداخل.

السيدات والسادة،
إن لبنانَ ليس وجهةَ نظر، وليس خطأً تاريخياً،
فالدول العظمى لم تعترف يوماً للبابِ العالي بحقِّ السيادةِ على لبنان، وكان اللبنانيون بارادتهِم يبايعون أمراءِهم ويختارون حكامِهم.
كما أن دولةَ لبنانَ الكبير نشأت قبل استقلالِ سوريا عام (1946)، وقبل دولةِ إسرائيل عام (1948). وهذه الأقدميةُ التاريخيةُ، ومكانةُ لبنانَ الحضارية والثقافية، وحضانتُه العيشَ الواحد، جعلته سوءَ تفاهمٍ مُفتعلاً في الجغرافيا والديموغرافيا، وهدفاً لمرمى الحسّاد، وصيداً ثميناً للطامعين، قريبينَ وأبعدين، فحاولوا النيلَ منه بشتى الوسائلِ والأعذارِ، إستضعفوا تنوّعَه، واستفردوا مكوِناته، فردّ بوحدتِه، وكان أقوى منهم منفردين ومتّحدين. صَمَدَ لبنانُ وبقي اللبنانيون على وحدتِهم وإيمانِهم الوطني.

إن القرار رقم ٣١٨ الذي إسترجع الاقضيةَ الاربعة، بعلبك، وراشيا، وحاصبيا، والبقاع الغربي، والمكتوب بخطِ اليد من ثمانيةِ أسطر، ليس له أي مفعول إنشائي لدولةِ لبنانَ الكبير، بل إقتصر على المفعول الاعلاني ليس إلاّ.
فالمذكرةُ الوطنية التي قدّمَها الوفدُ اللبناني تضمنت أربعةَ مطالب هي الإعترافُ باستقلال لبنان، إعادةُ لبنان إلى حدودِه التاريخيّة والطّبيعيّة، أي استعادةُ المناطقِ التي سلختها السلطنةُ العثمانية عن لبنان، والعقوباتُ على السلطنة، والتعويضاتُ للبنان.

وتحريرُ لبنان في العام ٢٠٠٥، لم يحصل بتجاوبِ الخارج فقط، بل بإرادةِ وبفعلِ الداخل. بدمِ الشهداء وبدمعِ الامهات.

وفي خطابِه التاريخي في كرسي الديمان بحضور الجنرال غورو في كانون الاوّل 1920، قال البطريرك الياس الحويّك:
« إنّ استقلالَنا لا يقبلُ الجدل، ولبنان مستقلٌ تماماً عن كل حكومةٍ مجاورة. فإذا جاءك، والحديثُ موجهٌ لغورو، قَومٌ مُفسِدون وقالوا إن اللبنانيينَ قد رجِعوا عن رأيهِم فلا تصدّق ما يقولون. أنا أنطقُ بلسانِ اللبنانيين عن بِكرةِ أبيهِم. فأقولُ لكَ إن اللبنانيينَ لأشدُّ تشبّثاً اليوم بالاستقلالِ منهم في أيِ زمنٍ مضى...فلبنانُ لم يرضخ يوماً لحكمِ أجنبي».
ما أحوجَنا اليوم لمثلِ هذه الحالةِ الجامعة التي تستظلُ دولةً واحدة، وسلطةً واحدة، دون مفسدين يغردّون خارج المدى اللبناني.
ما أحوجَنا للرئيسِ المفقود أو المغيّب القادرِ أن يتحدث عن جميع اللبنانيين عن بكرةِ أبيهِم، على حدّ تعبيرِ البطريرك.
ما أحوجَنا أن نستذكرَ مشهدَ إعلانِ دولةِ لبنانَ الكبير وقد ضمّ في قصرِ الصنوبر المفوّضَ السامي الجنرال هنري غورو، وإلى يمينِه البطريرك الياس الحويّك، وإلى يسارِه مفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا، في وفاقٍ داخلي فرضَ إحترامَه على الخارج. وبعدما تحررّ الوطنُ من المفوضيّةِ السامية، وقبلَها من البابِ العالي، وبعدها من سلطةِ السفراءِ في إحدى الحقبات، ومن الوطنِ البديلِ في السبعينات، ومن الوصايةِ السوريةِ خلالَ كلّ المرحلةِ الأخيرة، هل المطلوبُ اليوم إيقاظُ الخلايا النائمة وإستجرارُ الاحتلالاتِ او الوصاياتِ من جديد من خلالِ الاصطفافاتِ المستجدة؟
فلنعتبر ولنبنِ استقلالَنا، ولنرفع سياجَه بانتخابِ رئيسٍ للجمهورية، ولنمنع كلّ من تسوّلُ له نفسُه التوجّهَ بعيونٍ مفتوحةٍ الى إلغاءِ الرئاسة.
ما أحوجَنا لإعادةِ النصابِ المفقود الى نظامِنا السياسي،
ما أحوجَنا للإلتزامِ بمرجعيّةِ الدولةِ والدستور، فنُقصِرُ التنفيذَ على أوامرهِما دونَ أي أُمرةٍ أخرى.
ما أحوجَنا لانتظامِ عملِ المؤسساتِ المعطلةِ بالخيارِ لا بالاضطرار.
ما أحوجَنا لاستعادةِ لبنانَ بهاءَ سيادتِه الكاملة، ورونَقَ وحدتِه وعيشَهُ الواحد، وكمالَ أمنِه واستقرارِه، واكتمالَ نهضتِه الاقتصاديةِ والانمائية.
ما أحوجَنا للاحتكامِ الى دولةٍ قادرةٍ على مواجهةِ نموِّ بذورِ الارهابِ والتطرفِ التي تجتاحُ المنطقة، وتضربُ كياناتِها السياسيّة ومعادلتَها الديموغرافية، وحضارتَها التاريخية.
ما أحوجَنا للحفاظِ على الأغليين: سيادةُ لبنان وديمقراطيتُه.
ما أحوجَنا لارادةٍ واحدةٍ وقرارٍ لبناني واحد على غرارِ مرحلةِ اعلانِ دولةِ لبنانَ الكبير. فلا اتفاقُ فيصل الاول مع كليمنصو بتاريخ 6/1/1920 القاضي برفضِ استقلالِ لبنان عن سوريا، أحبطَ جهودَ الوفدِ اللبناني، ولا رغبةَ فرنسا في إبقاءِ بيروتَ مدينةً حرةً على غرارِ طنجة المغربية جعلت الوفدَ يرضُخُ إضطرارياً.

السيدات والسادة،

إن البقاع وبعلبك وحاصبيا وراشيا، هم بأهميةِ بيروت وجبلِ لبنان،
إن الاطرافَ هم قلبُ لبنان، ومن الجريمةِ ألا نتذكّر عكار إلاّ عندَ الحاجة.
كم يؤسفُني أن تكونَ وصيةُ الجنرال غورو في احتفالِ إعلانِ دولةِ لبنانَ الكبير في قصرِ الصنوبر لا تزالُ صالحةَ المفعول. قالَ إن لبنانَ الكبير تألفَ لفائدةِ الجميع ولم يؤلّفُ ليكونَ ضدَ أحد. وأوصى اللبنانيينَ بالاتحادِ الذي هو مصدرُ قوّتهم، محذّراً من الخصوماتِ العرقيةِ والمذهبية.
لكن رَغم كلِ شيء،
لبنانُ باقٍ بحدودِه التاريخيةِ والدوليةِ التي أُعلِنت ذاتَ يومٍ قبل خمسةٍ وتسعينَ عاماً.
لبنانُ باقٍ أرضَ تلاقي وحوار وإلفة وحرية
لبنان باقٍ أرضَ حضارةٍ ورسالة،
فلنحافظ عليه من أجلِ الاجيالِ القادمة، ومن أجلِ الانسان...
عشتم
عاش لبنان.