Back to Lectures

البنـان بين الحرية ... والتسامـح

2004-03-09

جامعـة القديـس يوسـف بيروت، في 9 آذار 2004

البنـان بين الحرية ... والتسامـح

عنوان:

حديثي إليكم الساعة حديث عن الحرية والتسامح. فلا تستغربوا العنوان، ولا تحكموا عليه، سلفاً، بالخروج عن قضايا الساعة، وإن كان من حقكم أن تتساءلوا عن الغرض أو المعنى أو الغاية، أو عن علاقة الموضوع بما نعانيه جميعاً في هذا البلد من متاعب، ومآس أحياناً وويلات، بل من تسيّب في كل نواحي الحياة.

صدّقوني ان اختيار هذا العنوان لم يكن اعتباطا أو استجابة لهوى أو هروبا من القضايا والملفات المستعصية. بل انه التدهور المتواصل في احوالنا السياسية والاقتصادية والمعيشية، والوطنية ما قادني الى هذه المقاربة. انّه الفارق المتعاظم يوما بعد يوم بين لبنان الامس ولبنان اليوم. الفارق بين الحرية والتسامح، بين ان يكون اللبناني حرّاً في معتقده حرية مطلقة، أو أن يستجدي هذه الحرية لدى صاحب السلطان، فلا تعطى له إلاّ تصدّقا ومن موقع التسامح في امور وعدمه في امور أخرى. ومن البلد الذي وصل في رقيّه الى حدّ تقديم نفسه كنموذج حلّ لمسألة الاقليات الدينية والثقافية في هذا الشرق أصبح هو نفسه يطلب حلاّ لذاته .

أسارع الى التذكير بالجديد والمتقدّم الذي أدخله لبنان على هذه المنطقة لدى تأسيسه في العشرينات من القرن الماضي. فلأول مرة في الشرق العربي والاسلامي تقوم دولة لا دين لها الاّ احترام كل الاديان، وعلى اساس ان " حرية الاعتقاد مطلقة" كما تقول المادة التاسعة من الدستور اللبناني. انها " دولة لبنان الكبير". قبلها لم تكن هذه الحرية معروفة أو معترفا بها أو متدأولة بين الجهات الدولية والاقليمية التي كانت معنية باعادة تشكيل هذه المنطقة بعد سقوط الامبراطورية العثمانية في اعقاب الحرب الكونية الأولى .

وحده الكيان اللبناني، الذي قيل عنه، افتراء، انه " كيان مصطنع " أو من " صنع الاستعمار"، تأ سس على حرية المعتقد. وكان ذلك أشبه بثورة على المستوى الفكري والسياسي والاجتماعي تتوّج تاريخا عريقا من الصراع مع الدولة الدينية في هذه المنطقة من العالم.
يزيده شرفا ان ما قام عليه ومن اجله هذا الكيان قبل ثمانين عاما ونيفا اصبح اليوم هو المقياس لمعرفة مدى تقدّم هذه الدولة أو تلك، حتى ليصح القول ان التسامح، تسامح الدولة الملتزمة ديانة معينة مع من ليس على دينها، هو لزمن مضى، أ مّا حرية الفكر والمعتقد، وفي ظلّ دولة تكفل هذه الحرية، فلهذا الزمن، ولكل زمن.
لقد كان الكيان اللبناني أول دولة في هذا الشرق تنأى بنفسها عن إلتزام دين من الاديان لتكون ضمانة لهذه الحرية المفتقدة. وبدلا من أن يظلّ الشخص ينشد هذه الحرية ويتكل على كرم صاحب السلطان في التسامح، يكون سيد نفسه في ان يؤمن أو ألاّ يؤمن، وفي ان يغيّر ايمانه ومعتقده متى يشاء وكيفما يشاء.

الدولة الدينية والتسامح

واسارع الى التذكير ايضا بان من أدخل هذا الجديد والمتقدّم على المنطقة العربية والشرق الأوسطية هم المسيحيون، وفي طليعتهم الموارنة. وقد كانوا، بلا ريب، أصحاب مصلحة ملحّة في تحقيقه. فهم الذين كانت حرياتهم موقوفة على مقدار تسامح الدولة الاسلامية في هذا المجال، تارة يتسع صدرها وطورا يضيق، تتسامح في أشياء ولا تتسامح في أشياء أخرى، الاّ انهم لم يكونوا فئويين أو أنانيين. وبدلا من الردّ على الدولة الدينية بدولة دينية أخرى قالوا بالدولة التي دينها الوحيد احترا م كل الاديان ومن منطلق التأكيد على ان حرية المعتقد حرية مطلقة لا يحدّها تسامح أو سلطان .
أو بدلا من التسامح الذي هو بلا ريب فضيلة وعمل انسان عظيم لكنّه يفترض وجود مرجعية أو سلطة تقرّره وتعيّن له حدوده ومداه ... بدلا من ذلك تكون حرية الاعتقاد المطلقة في ظلّ دولة هي على مسافة واحدة من كل الاديان.

ونرانا في غنى عن تعداد اشكال التسامح في الدولة الدينية، إسلامية كانت أو مسيحية.
فهو يختلف باختلاف الزمن وطبائع الحكام والظروف الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن انه يتراجع احيانا الى أدنى درجة ويختفي لتقوم مقامه المظالم على انواعها باسم الدين أو دفاعا عن الدين. وتلك هي المسألة في المسيحية كما في الاسلام. فكما ان المسيحية قد تحوّلت، نتيجة التصاقها بالدولة، من ديانة ثورية وتقدّمية - إن جاز القول – الى ديانة دولة، واحدة، رسمية، وإلزامية، كذلك كانت الحال مع الاسلام الذي شهد ذات التحوّل من ديانة ثورية وتقدّمية وتحرّرية الى ديانة دولة، رسمية، وإلزامية، تتسامح في أمور ولا تتسامح في أمور.
وما أكثر القيود والمحظورات والمحرّمات التي فرضتها الحاضرة أو الدولة المسيحية على " غير المؤمنين "، بإقصائهم عن الوظائف العامة والقوات المسلحة، أو بتحظير التبشير بمعتقداتهم وبناء المعابد، أو بمنع الزواج المختلط، ناهيك عن إلزام هؤلاء بحمل اشارات معينة تدلّ اليهم بغية عزلهم عن المجتمع والتضييق عليهم ... وقس على ذلك.

وهكذا كان تعامل الدولة أو الحاضرة الاسلامية مع المسيحيين و" اهل الكتاب" عموما. لقد حظرت على النصارى، مثلا، وفي وقت من الأوقات، تقلّد الوظائف العامة، ولبس العمائم ورفع اصواتهم في الصلاة، كما الزموا بارتداء ملابس خاصة وشدّ أوساطهم باحزمة من جلد ... وبان يجعلوا على بيوتهم تماثيل خشبية للشياطين، إضافة الى منعهم من بناء الكنائس ورفع سطوح قبورهم الى مستوى سطح الارض، وما الى ذلك من ممنوعات ومحظورات .

لقد كان من الطبيعي ان يحاول الآباء المؤسسون للكيان اللبناني تخطّي هذه الحال في الدولة الجديدة. فقالوا بحرية المعتقد اساسا لها وغاية .
والحقيقة تقال ان لبنان كان قد قطع شوطا بعيدا في هذا الاتجاه وحقق الكثير من غاية وجوده السياسي. فلأول مرة في هذا الشرق تقوم دولة " يشعر فيها المسلم والمسيحي واليهودي والملحد ايضا انه في بيته " كما كان يقول الشيخ بيار الجميل مفاخرا. بل كان هكذا يردّ على الذين يطعنون في الكيان اللبناني أو ينشدون له ذوبانا في كيان آ خر اكبر وأوسع، مضيفاً: دلّوني على بلد عربي آخر يشعر فيه كل من هؤلاء بما يشعر به في لبنان". فلا هو طارىء أو عابر أو ضيف على صديق أو لاجىء الى حمى قريب. انه في " بيته " حيث الدفء والامان والحرية الكاملة وتلك الحصانة الذاتية التي لاتقدّر بثمن. هذا بصرف النظر عن مقدار الرفاهية في هذا البيت أو الرحابة أو الفخامة من الناحية المادية.

الغربة عن الوطن

فمن كان في بيته هو سلطان. ولعل هذا ما رمى اليه المشترع في مقدّمة الدستور بعد تعديله في العام 1990. لقد رمى الى التأكيد على هذا المعنى بعد المتغيّرات القاسية التي طرأت على لبنان في العقود الأخيرة، فشرّدت ابناءه وجعلت منهم في وقت من الأوقات غرباء في وطنهم . فقال ان " لبنان وطن لجميع ابنائه" , وان " ارض لبنان ارض واحدة لكل اللبنانيين " وان " لكل لبناني الحق في الاقامة على أي جزء منها في ظلّ القانون. هذا رغم ان لي ملاحظات عديدة على إتفاق الطائف، ومنها خلوّه من أي ضمانة على ان لبنان عائد وطنا لجميع ابنائه . فالعمل بالدستور في هذا المجال كما في مجالات اخرى عديدة لا يزال مؤجلا فيما الشعور بالغربة لا يزال سائدا، وخصوصا في أوساط الذين راهنوا على الكيان اللبناني كمشروع حلّ للمشكلة المزمنة مع الدولة الدينية في هذا الشرق , وأعني بهم المسيحيين تحديدا .

والصحيح ان الدولة نفسها التي تأسست على حرية المعتقد اصبحت مجرّد رموز وطقوس وألقاب ومظاهر خارجية بما فيها السيادة وسلطة القرار. فلا وجود فعليا لها بحكم فقدانها السيادة بوجهيها الداخلي والخارجي، وبحكم التفكّك الذي اصابها منذ زمن المقأومة الفلسطينية من الاراضي اللبمانية ولا تزال عليه. والجهات أو القوى التي اخذت مكانها معروفة .
فهناك الدولة السورية ... أو النظام السوري، على مستوى لبنان كلّه، وفي كل القضايا الكبرى الاساسية بما فيه اختيار الحكام وتشكيل الحكومات. وهناك المقأومة الاسلامية على الحدود تقوم مقام الدولة وجيشها على الجبهة الاكثر اهمية وخطورة بالنسبة الى كينونة هذه الدولة، ناهيك عن الانتشار الفلسطيني المسلّح في العاصمة والشمال والبقاع .
ونرانا في غنى عن الدلّ الى معتقدات هذه والقوى والفكر السياسي والديني الذي تحمله وتعمل من خلاله على الاراضي اللبنانية. يكفي القول انها تتعامل مع لبنان بموجب دساتيرها ومعتقداتها هي لا بموجب دستور الدولة اللبنانية الباقي معلّقا، وخصوصا في مبادئه وقواعده الاساسية.

ولا أستثني السلطة اللبنانية هنا، وهي من نتاج هذه الحال التي تدوم منذ سنين وقد أريد بها حليفا للقوى المذكورة أو شريكا لبنانيا في هذه المسيرة ولو فاقد الصفة التمثيلية المتعارف عليها دستوريا وديموقراطيا. وليس مبالغة القول ان هذه السلطة التي تشكلت في اعقاب تسوية الطائف، والتي لا تزال تستولد نفسها بنفسها، قد تشكلت في صورة انقلابية وخلافا لما نصت عليه هذه التسوية من اجراءات امنية وسياسية، من مثل حلّ الميليشيات المسلّحة، واقامة حكومة الوفاق الوطني وبسط سلطة الدولة على كامل الاراضي اللبنانية. فان لم يكن هذا انقلابا فماذا يكون ؟

ان حلول هذه القوى المحلية والخارجية مكان الدولة المتفق عليها في الدستور كما في سائر المواثيق المعقودة بين اللبنانيين يطرح اكثر من سؤال حول المستقبل والمصير، وخصوصا حول مصير هذه الدولة الباقية مغيّبة، وهل ستعود، وعلى اي حال ستكون اذا ما اتيح لها ان تعود وتكون .

أي دولة نريد؟

كان السؤال من قبل : اي لبنان نريد، فلم نحسن الجواب. وكان ينبغي ان يكون السؤال : أي دولة نريد. ليس فقط لان مفهوم الدولة عندنا لا يزال غامضا، فنخلط ما بين الدولة والسلطة والنظام، بل ايضا لاننا نجهل أو نتجاهل الغاية الاساسية من تأسيس الدولة اللبنانية، أو ربما ايضا غير متفاهمين على نهائية هذه الدولة .

ان التأكيد على العيش المشترك ليس هوالجواب الكامل والشافي، لان المسألة تتخطّى العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين الى ما هو أهم وأعظم وأكثر ضرورة، فضلا عن ان لبنان لا يتفرّد في هذا العيش ولا يحتكره. ففي سوريا مثلاً عيش مشترك، وفي العراق أيضا، عراق البعث وصدّام وحسين والعراق الآتي، وفي الاردن عيش مشترك كما في مصر، بل في الجمهورية الاسلامية نفسها في ايران. لكنه عيش مشترك في ظل التسامح، تسامح الدولة الدينية أو ما يماثلها مع من ليس على دينها أو مذهبها. وحده لبنان يربط ما بين العيش المشترك والحرية، حرية المعتقد المطلقة، ومعها ونتيجة لها، حرية التعبير بالكلمة أو بالتظاهر أو بالتجمّع أو بالفنون على أنواعها، من الموسيقى الى الرسم الى المسرح والقصة والصورة، وكل الحريات. قال البطريرك الماروني الكاردينال نصرالله صفير : " لو خيّرنا بين العيش المشترك والحرية لاخترنا الحرية " .
وهذا كله يعني ان الدولة هي على مسافة واحدة من كل الاديان . ولكن، عندما يطول تغييب هذه الدولة عنوة، كما هي الحال منذ عقود، وسط حروب اصوليات دينية، إقليمية ودولية، إسلامية ويهودية، أو يهودية على مسيحية وافدة من البعيد، يصبح السؤال عن اي دولة نريد مشروعا وملحّا. فما يحدث منذ سنوات يعيدنا الى زمن مضى، الى زمن الدولة الدينية، أو الى زمن التسامح مع التزمت، وسائر اشكال التعامل مع من ليس على دين السلطان .

اذ ليست مصادفة ان نرى الاحزاب التي عرفت بالدفاع عن الكيان خارج السلطة والكيان فيما الاحزاب الرافضة، أساساً، لهذا الكيان تنعم بالسلطة وتحتل الصدارة في هذا الكيان .
كما ليست مصادفة ان تكون المعارضة، غالباً ورغماً عنها، مسيحية اللون والطابع، فيما بعض وجوهها ورموزها في المنافي والسجون.
ولا هي مصادفة ان تجد هذه المعارضة نفسها، والمصنفة يمينية، متلاقية مع القوى المصنفة يسارية وربما في أقصى اليسار. كاد هذا التلاقي، في وقت من الأوقات، يتجسّد في معارضة واحدة، أو مقاومة سياسية واحدة للانقلاب على مشروع الدولة اللادينية . اننا لا ننسى بأي انفعال سارعت السلطة الى وأ د هذا التلاقي العفوي في " يوم الحريات " في نقابة الصحافة بافتعال قدر من الشغب على يد بعض أنصارها يخلط الحابل بالنابل ويغرق اللقاء في الفوضى .

وهل هي مصادفة أن تقدم الحكومة على إحالة مشروع قانون على المجلس النيابي يجيز الانضمام الى المنظمة الاسلامية للثقافة "ايسيسكو"، كما لو ان الدولة اللبنانية دولة اسلامية خالصة؟ اننا لا نفهم كيف وافق مجلس الوزراء على هذا المشروع، ولا كيف وقع عليه أصحاب الصلاحية : من رئيس الجمهورية الى رئيس مجلس الوزراء، الى وزراء التربية والتعليم العالي والثقافة والمال والخارجية والمغتربين. كما لا ندري ايضا كيف قرأوا – أو لم يقرؤوا – النصوص الدّالّة على غاية المنظمة الاسلامية للثقافة ومنها على سبيل المثال : " جعل الثقافة الاسلامية محور مناهج التعليم في جميع مراحله ومستوياته ... و" اضفاء الصيغة الاسلامية على كل مظاهر الفن والثقافة والحضارة ... " وقس على ذلك . وماذا يبقى من لبنان ومن الدولة اللبنانية في هذه الحال ؟
صحيح ان الحكومة سارعت، بعد ضجة، الى سحب المشروع بحجة اعادة درسه . لكن ما فعلته، بداية، يأتي بالتأكيد في سياق هذا المنزلق الذي دفع اليه لبنان بعد اسقاط الدولة والحلول مكانها، في الداخل، وعلى الحدود، وفي كل مكان تقريبا.

المرسوم الفضيحة

ويدخل في هذا الاطار ايضا مرسوم التجنيس الشهير الذي يمنح الجنسية، بالجملة، لعشرات الالوف من الاشخاص، بل لمئات الالوف، لمن يستحقونها أو لا يستحقونها ابدا . فلم يحدث مثل هذا البذخ في توزيع الجنسية على الناس في اي بلد، ولا عرف بلد مثل هذا الهدر في معنى وجوده .
قيل ان التوقيع على هذا المرسوم تطلّب جرأ ة نادرة. والصحيح ان هذا العمل غير المسؤول ادهش غلاة المطالبين به انفسهم فلم يصدّقوا . وفي الامر ما فيه من دلالات على مدى التورّط الذي ينساق اليه بعضهم مقابل الحصول على شهادة حسن سلوك في " الوطنية "، بما تعنيه الوطنية في هذا الزمن والتي لا يعرف الى اي وطن تنتمي . وهي هذه " الوطنية "، كما يقولون، التي تحمي الوجود المسيحي في لبنان وتحافظ عليه. والعكس مجازفة به وانتحار .

والحال ان ثمة ما يشبه الثقافة السياسية الكاملة يروّج لها منذ مدّة على السنة بعضهم تجعل من حلول المقأومة الاسلامية، مثلا، مكان الدولة وجيشها اراحة لهذه الدولة وجيشها. أجل، هكذا مدح أحدهم هذه المقاومة مستغربا، ايما استغراب، التشكّي من هذه الحال الغريبة والتي لا يقرّها دستور أو قانون أو منطق .
ولست هنا لانكر على المقأومة الاسلامية عظم ما فعلته في الارتقاء بالشهادة الى أعلى درجة، ولا لآخذ عليها اعتمادها على الايمان بالاسلام حافزا لهذه الشهادة. المسألة عندي تطرح من زاوية أخرى، من زاوية قيامها مقام الدولة وجيشها في الدفاع عن الحدود، وفي مفاوضة إسرائيل أيضا إطلاق المعتقلين في سجونها، ولو بالواسطة، وخصوصا اننا لا نعرف، بعد، موقف هذه المقاومة من وجود الدولة اللبنانية، وهل هي مع هذه الدولة في امتناعها عن التزام ديانة معينة ام مع الجمهورية الاسلامية والدولة الدينية .

ولست، طبعاً، مع التساهل في هذا الخيار أو في سائر الخيارات الاساسية كما يفعل احيانا الغيارى جدّا، أو مدّعو الغيرة على الجماعة المسيحية في لبنان والذين كانوا، من قبل، يرفعون شعار " أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار". لست أبدا مع هذا التودّد الى الجهات والقوى التي تأخذ مكان الدولة الى اجل غير معروف مقابل نيابة أو وزارة أو شهادة حسن سلوك كالتي كانت تعطى لطالبيها في زمن التسامح مع " اهل الكتاب " .

دولة علمانية

وإذ اخصّ الوجود المسيحي، هنا، بهذا الكلام، فلأنه هو المتضرّر، أولا، من الدولة الدينية، ولأن الدفاع عنه يصير، تارة، تحت شعار " أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار" وطورا تحت شعار الاعتدال المرادف للتسليم بواقع الحال والاتكال، كلّيا أو جزئيا، على تسامح الحاكم أو الوالي أو السلطان. فلا هذا ولا ذاك يحمي الجماعة المسيحية ويحافظ على وجودها الروحي والزمني. فالوجود المسيحي في لبنان يكون حرّا – كما كان يقول شارل مالك – أو يصبح خطرا على نفسه وعلى لبنان أيضا. وشرط ذلك ان يكون لبنان دولة سيدة لا محمية، وان تكون هذه الدولة كما حدّدها الدستور، علمانية لا دينية. ويجب ان نقرّ ونعترف بالخطر الدائم الذي يهدّد لبنان من هذا القبيل، وبخاصة بعد قيام دولة اسرائيل، الدينية والعنصرية .

كنا، من قبل، أمام دولة دينية واحدة، فاصبحنا امام دولتين، إسلامية ويهودية، فيما االنزاع العربي – الاسرائيلي يكاد يصبح صراعا دينيا لا تنفع فيه مفاوضات وتسويات سياسية، بل حرب أصوليات هيهات ان تلتقي على طاولة مفاوضات أو تتفاوض، اذا التقت، بلغة دبلوماسية موضوعها نزاع على الارض لا في السماء. فبأي سلاح يدافع لبنان عن نفسه ؟ ... أو بأي دولة يدافع اللبنانيون عن حرّياتهم ان لم يكن بالتشبث بمشروع الدولة العلمانية التي يقول بها الدستور ويؤكّد عليها ماضيا وحاضرا ومستقبلا ؟

الامر موقوف عليكم، أنتم أبناء الجيل الجديد، أو بالاصح أنتم لبنان الآتي، باعتبار ان على نحو ما ستكونون سيكون لبنان، بلداً يحسب له حساب في الاسرة الدولية أو لا يحسب له حساب ابدا. أن يكون دولة حديثة، أو جمهورية من جمهوريات الموز، كما يقال، بما تعنيه الحداثة، طبعا، من فصل بين الدين والدولة، ومن احترام لحقوق الانسان، ولحقوق المرأة خصوصا، ومن تمدين للمجتمع، ومن ديموقراطية لا زيف فيها، ومن مواكبة للعصر في كل المجالات .

لقد شاءت الظروف ان تولدوا، وتنشأوا، في بلد معتدى عليه، فسلبوه السيادة والاستقلال مع الغاية الحضارية من وجوده السياسي اضافة الى التراث العظيم الذي يملكه ثقافيا وحضاريا، وسياسيا ودستوريا. وفوق هذا كلّه شطبوا على تاريخه الطويل ليجعلوا منه بلدا بلا ماضي ولا تاريخ .

انتم مدعوون الى نوع من الممانعة أو المقاومة الفكرية والثقافية لهذه الحال، وخصوصا لثقافة التكيّف معها، وللمروّجين لها، الراضين بالتسامح، تسامح أهل الحلّ والربط في هذا الزمن الرديء، بدلا من الحرية، حرية الفكر والمعتقد وسائر الحريات .
قاوموا هذه الانهزامية بالتشبث بالغاية من وجود لبنان، دولة لا دينية احتراما لكل الاديان. وفي اختصار، كونوا احرارا، فيسلم لبنان الحر السيد المستقل .