Back to Lectures

اقليم بعبدا الكتائبي

2001-03-03

كلمة الرئيس امين الجميّل

إقليم بعبدا الكتائبي

* * *

3 آذار 2001

لا أدري إن كانت مصادفة أم ان الامر يتعدّى فعل الصدف:
أولاً: أن يكون تحرّك للكتائب، بعد الإعلان عن تأسيسها في تشرين الثاني من العام 1936، هنا، في هذه المنطقة، منطقة بعبدا، وعلى ساحلها، وبالتحديد على مسافة دقائق من هذا المكان، على ملعب فرن الشباك، حيث كانت التمارين الأولى لتلك الحفنة من الشباب التوّاقين الى السير خطوات متّزنة وصفوفاً منظمة. وأول مشهد عن الكتائب المنظمة كان أيضاً من هنا، تلك المسيرة ما بين فرن الشباك وبلدة بعبدا وقد امتدّت على مسافة كيلومترات.
ثانياً: أن تكون أول مقاومة للانفلاش الفلسطيني المسلّح قد حدثت في ذات المكان تقريباً، في عين الرمانه والشياح وفرن الشباك، وصولاً الى الحدث، أو ما يعرف ب "مثلّث الصمود". إنه خطّ الدفاع الأول الذي ظلّ صامداً ست عشرة سنة ففشلت كل محاولات اختراقه تتكرّر في كل يوم، وشكّل الكتائبيون والأهلون فيه جبهة واحدة متراصة.
أدعوكم الى الوقوف دقيقة صمت تدليلاً على أننا لم ننس، ولن ننسى أيداً شهداء الساعة الأولى من جوزيف أبو عاصي، الى اميل غنطوس، الى كميل هرموش... الى سائر الذين قدّموا أنفسهم قرابين على هيكل لبنان.
* * *

لا، ليست مصادفة أن يقترن تاريخ هذه المنطقة الحديث بتاريخ الكتائب. فلعلّ هذا اللقاء يتمّ اليوم، يكون هو أيضاً تعاقداً جديداً بينهما، أو تأكيداً على التعاقد القديم والثابت، وبداية نهضة كتائبية متصلة بالجذور، وبالدم الذي سال غزيراً على هذه التخوم.
هل نذكر ذلك؟
كانت الحرب حرباً على الكتائب في الدرجة الأولى.
لماذا؟ لأنها وحدها رفعت الصوت محذّرة معترضة على ما يشكّل في النهاية مجازفة بالدولة اللبنانية كما بالقضية الفلسطينية نفسها. وقد أثبتت التجربة صحّة هذا الموقف وسلامته، على الصعيد اللبناني كما على الصعيد الفلسطيني. وهذا باعتراف الذين أعلنوا الحرب على الكتائب في ذلك الحين ورموا الى تصفيتها.
تساءل شارل مالك، مرة، لماذا هذه الحرب الدائمة على الكتائب فأجاب:
"إنه ردّ فعل على صمود الكتائب المتواصل وغير المألوف في وجه الذين يخطّطون، في السرّ والعلن، لتصفية لبنان". ويضيف:
"أول ما يفكّرون فيه، ليس الحكومة، وليس هذه أو تلك من الهيئات، وليس هذا أو ذاك من القادة، بل الكتائب اللبنانية التي بمجرّد وجودها يتعثّرون".
ويمضي شارل مالك قائلاً:
"... وبالنسبة للمسيحيين، بالطبع توجد الكنائس ومؤسساتها، وتوجد بكركي، ويوجد مفكّرون وقادة لبنانيون مسيحيون صامدون، غير أن درع الصمود المحارب ميدانياً هو في الدرجة الأولى الكتائب اللبنانية. فإذا فُكّكت أو مُزّقت أو احتُويت، فُكّك لبنان وغُلب على أمره"!
ولكن، أي كتائب يعني شارل مالك؟
إنها التي صنعها بيار الجميّل لا أي كتائب أخرى. فيقول: "إن شخصية الشيخ بيار غير العادية هي التي خلقت هذا التنظيم... هذه البنية المتراصة المرسّخة في تربة كل وسط تقريباً من أوساط المجتمع اللبناني، بل هذه الظاهرة التنظيمية التي لا نعاينها في أي تنظيم سياسي آخر في لبنان، لا الآن ولا في الماضي".
ويضيف مفكّرنا وفيلسوفنا الراحل قائلاً: "إن ما ضَمَن هذه الظاهرة هي الانضباطية المحكمة التي بثّها الشيخ بيار في المؤسسة التي أسّسها ورعاها وأشرف عليها طوال نصف قرن".
ويقول أيضاً: "إن حزب الكتائب هو أيضاً فيض من كيانه"!!
وهذا أدق وأعمق وصف أُعطي للكتائب، أستعين به هنا للدلالة على عمق الارتباط بين شخصية الكتائب وشخصية بيار الجميّل، يعجبنا الأمر أو لا يعجبنا.
فلا كتائب إلاّ كتائب بيار الجميّل.
هي التي عاشت أكثر من نصف قرن،
وهي التي لعبت دوراً أساسياً في حياة لبنان،
وهي التي يفتقدها اللبنانيون الآن، ويفتقدها المسيحيون خصوصاً، لا اي كتائب أخرى.
وهي الضرورية، واللازمة وهي التي لا غنى عنها، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
وهي الباقية حيّة، فيكم أنتم، وفي آلاف الكتائبيين المنتشرين في كل لبنان، وفي ديار الاغتراب.
وهي التي لا يُراد لها أن تكون الآن، شأنها شأن لبنان، لبنان الكيان والوطن والدولة السيّدة.
أو هي التي يُراد تغييرها وتغيير شخصيتها وغاية وجودها، بحجة التغيير والتطوير والتحديث، أو لتكون أكثر انسجاماً مع واقع الحال، أو مع الأمر الواقع المفروض على لبنان وأهله منذ سنوات.
هذه هي المسألة التي تطرح نفسها علينا، والتي من أجلها ألتقيكم هنا الليلة، والتي من أجلها سألتقي كل الكتائبيين في كل لبنان، إنطلاقاً من هذا السؤال: أي كتائب نريد أو تريدون أو يريدها الكتائبيون. أما الباقي، فهوامش وتفاصيل.
منذ عودتي الى الوطن وأنا أحاول معالجة هذه المسألة بالمصالحة. فالتقيت الجميع، فرداً فرداً، متخطّياً كل الاعتبارات الشخصية، آخذاً بالصفح والمغفرة طريقاً الى هذه المصالحة. ستة اشهر من المشاورات المتواصلة، وعشرات النصوص المكتوبة بحثاً عن تسوية، ولكن، من دون نتيجة.
أما لماذا امتنعت المصالحة وتعذّرت حتى الآن، فلأن جهات داخلية وخارجية، ومصالح شخصية، وأحقاداً، لا تريد عودة الكتائب الى الساح. الكتائب الحقيقية التي صنعها بيار الجميل، والتي لا بديل منها أبدا، لا اليوم ولا غداً. وقد اتخذوا من عودتي، شخصياً، الى الكتائب ذريعة، فيما الصحيح أن عودة الكتائب الى نفسها هي التي لا يريدونها...
... إلاّ إذا كانت عودتي الى الكتائب تقدّم أو تؤخّر في عودة الكتائب الى ذاتها. ولست أنا من يربط بينهما، بل إنهم هم الذين يفعلون ذلك.
والحقيقة أن، منذ غياب بيار الجميّل، وهم يحاولون إقامة كتائب أخرى، أو تغيير ما صنعه بيار الجميّل، عن حسن نية ربما، أو ربما عن سؤ نية وتفريجاً عن أحقاد وحساسيات قديمة. ولست هنا لأدين أحداً، بل لأدل فقط الى فشل كل هذه التجارب والمحاولات. فعبثاً يحاولون.
إن الكتائب الضرورية واللازمة، والتي لا غنى عنها هي التي وصفها شارل مالك بقوله: "إنها الفيض في كيان بيار الجميّل". وهي وحدها القابلة للحياة. وما عداها هو الى تفكّك، واهتراء، وتآكل كالذي نراه الآن فيها، وهي كناية عن مجموعة أشخاص هيهات أن يتفقوا على موقف أو قرار... إلاّ على منع الكتائب الحقيقية من العودة الى الساح.
الكتائب الحقيقية هي، أولاً، مجموعة قيَم وفضائل، من مثل النزاهة، والاستقامة، والشجاعة، والجهر بالحقيقة، والمحبّة، محبّة الآخرين، ومحبة لبنان خصوصاً. إنها مناقبية جعلت من الكتائب في وقت من الأوقات أشبه برهبانية.
والكتائب الحقيقية هي تنظيم يعبّر عن هواجس المسيحيين، ويوحي إليهم بالثقة في النفس، ويشجّعهم على المضي في الرهان على الميثاق الوطني، ميثاق 1943، ميثاق العيش المشترك، والتعاون العربي الى أقصى حدود التعاون. وهذا كله في إطار دولة سيدة ومستقلة وديمقراطية.
أما أي كتائب أخرى، فهي رقم زائد، أو تنظيم لا لزوم له ومحكوم عليه، بالتالي، أن يراوح مكانه، أو أن يدور على نفسه، أو أن يضربه الفساد والاهتراء، ولا مفرّ من ذلك.
ولعلّ هذا هو الخطأ الذي وقع فيه من حاول الانقلاب على كتائب بيار الجميّل أو تغيير ما فيها أو جعلها متفقة ومتآلفة مع واقع الحال، سياسياً ووطنياً، فوقع في التبعيّة، بوَعيه أو من دون وعي، فغاب الكلام على السيادة والاستقلال وزالت كل الفوارق بين هذه "الكتائب" وأي تنظيم سياسي آخر. فلماذا الكتائب في هذه الحال؟

أليس من تضامن بين البلدين التوأمين – كما كان بيار الجميّل يصف العلاقة بين لبنان وسوريا – إلاّ بمنع لبنان من أن يكون دولة حقيقية، أي مكتملة السيادة ومسؤولة عن نفسها وقرارها؟!
هذه هي المسألة التي نطرحها ويطرحها معنا كثيرون من قادة هذا البلد، مسيحيين ومسلمين، وتطرحها بكركي وغيرها من المرجعيّات الروحية والزمنية، ويطرحها رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري نفسه عندما اصطدمت مساعيه لدى عواصم القرار لإنقاذ الوضع المالي والاقتصادي بعملية في مزارع شبعا لا يعرف أحد لماذا كانت وما هي الغاية منها في هذه اللحظة الدقيقة من حياة البلاد!
ما نعنيه أن العلاقة الخاصة أو المميّزة بين لبنان وسوريا، على أهميتها وضرورتها، لا يجوز أن تكون، في أي حال من الأحوال، لا في الحرب ولا في السلم، لاغية لوجود الدولة اللبنانية السيدة على كل أراضيها.
لقد قلنا ونكرّر القول: نحن طلاّب استراتيجية مشتركة بين البلدين في مواجهة إسرائيل، في الحرب كما في السلم، إلاّ أن لنا رأينا في هذه الإستراتيجية كما للآخرين رأيهم. وإنما الاعتراض على الإستراتيجية التي تتقرّر من دون علمنا وتقع أكلافها السياسية والأمنية والاقتصادية على لبنان وحده، حتى كاد يقع في إفلاس حقيقي، مالي واقتصادي، وبالتالي، في إفلاس سياسي أكيد.
وإنما الكتائب أيضاً للاعتراض على هذه الحال، ولمقاومة ذيولها.
فالكتائب حركة استقلالية وطنية في الدرجة الأولى، قبل أن تكون حزباً سياسياً.
والكتائب – الحزب هي امتداد للحركة الوطنية الاستقلالية لا تجمّع وجهاء أو هواة سياسة أو أصحاب طموح سياسي.
والكتائب هي الكتائب التي صنعها بيار الجميّل لا تلك التي يُراد لها أن تكون، امتداداً للأمر الواقع المفروض على البلاد أو صدى له وغطاء.
وإننا إذ نطرح السؤال: أي كتائب يريد الكتائبيون، اليوم هنا وغداً في كل المناطق والأقاليم، فللوصول الى جواب واحد، صريح وعلني، الذي يحسم الخلاف، أي خلاف، ويحقّق المصالحة الحقيقية، ويعيد الكتائب الى الساحة الوطنية والسياسية التي هي نفسها تفتقد الكتائب وتسأل عمّا يملأ الفراغ.
إنها عملية استفتاء تشمل كل الكتائبيين، ديمقراطية، شفّافة، لا يحول دونها حائل، ولا يستقيم في وجهها أي اعتراض، ولا يقوى عليها أي احتكار لرأي والكلمة والقرار.
فقولوا معي:
تحيا الكتـائب
ويحيا لبنــان.

اميـن الجميّـل
إقليـم بعبـدا الكتـائبي
3 آذار 2001